07:32 م
السبت 13 سبتمبر 2025
الوادي الجديد – محمد الباريسي:
في صفحةٍ منسيةٍ من سجلّ الصحراء الغربية، روى جبل الإنجليز بمدينة الخارجة وتحديا غرب الواحة على بعد 25 كم بواقع 20 كم على طريق الأسفلت وهو طريق الخارجة – الداخلة أو درب الغباري قديما حكايةً مزدوجة: طبقاتٌ جيولوجية قاتمة تشي بنشاطٍ أرضي قوي، وذكرياتُ سريةٍ عسكريةٍ بريطانية شُيّدت على عجل عام 1916 لمراقبة ومواجهة تحرّكات السنوسيين القادمة على شكل هجمات متكررة من دولة ليبيا من اتجاه الغرب على الواحات.
يلوح الجبل على مقربةٍ من مدينة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، ويصعد بزائرِه إلى مشهدٍ بانورامي يحرسه حجرُ أسود ، فيما تتناثر على القمة بقايا حياةٍ عسكريةٍ قصيرة وبعيدة في آنٍ معًا: نقاط مراقبة، أسلاكٌ شائكة، ومصابيحُ وقود، وعلب طعامٍ معدنية صدئة، وكأن الزمن جرى تجميده عند لحظةٍ واحدة من الحرب العالمية الأولى.
بصمات النار القديمة
تُظهر القمة التي تُعرف محليًا بـ”جبل الإنجليز” طبقةً داكنة ناتئة من صخورٍ صلبة سوداء، وهي صخور حجر رملي مخلوطة بأكاسيد الحديد.
وهذا ما أكده الدكتور جبيلي أبو الخير، أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم بجامعة الوادي الجديد، قائلا: تعد هذه البصمة الحجرية سببًا لاهتمام الجيولوجيين والزائرين على السواء، إذ تمنح الموقع شخصيةً تضاهي شهرة معالم الواحات الأخرى وتحوله إلى معملٍ مفتوح يقرأ رواسب التاريخ الطبيعي جنبًا إلى جنب مع التاريخ القديم للمنطقة.
وأضاف أنه تتعدد قراءات العلماء لتطور تضاريس الصحراء الغربية، يظلّ الثابت أنّ وجود هذه الصخور السوداء فوق قمةٍ واحدة جبلية مثل جبل الإنجليز يدلّ على خروج ما يسمى السوائل الحارة الأرضية التي تحمل الحديد المنصهر والذي يدخل كمادة لاحمة بين مكونات الحجر الرملي المنتشر في المنطقة والذي يعطي الحجر لونا غامقا قريب من الأسود أو الأحمر الداكن بسبب أكاسيد الحديد التي حملتها تلك السوائل الحارة.
سريةٌ انجليزية ومقرّ مراقبة فوق القمة
في ذروة الاضطراب الذي شهده غرب مصر إبّان الحرب العالمية الأولى، صعد ضابط بريطاني يُعرَف باسم “ويلمز” إلى قمة الجبل، وأنشأ نقطةً عسكرية خفيفة التجهيز: ثلاثُ غرفٍ متلاصقة ودورةُ مياهٍ للعساكر، لتكون مقرًا للمراقبة والإنذار المبكّر على تخوم الخارجة.
هذا ما أكده محمد محسن عبد المنعم، مرشد سياحي بالوادي الجديد، لـ”مصراوي”، قائلا:”إن جنودًا بريطانيين خلّفوا نقوشًا وأسماء وحداتٍ وعلامات مواعيد وصولٍ ومغادرة على الجدران والرمال، وبعضها يحمل تاريخ 9 أغسطس 1916؛ وهي شواهد ما زالت حاضرة لعين الزائر حتى اليوم، وتُعطي للمكان طابع متحفٍ مكشوف لحربٍ قديمة، حيث أقام الإنجليز في عام 1916 هذه الثكنة العسكرية وجرى اتخاذها لمواجهة و لتعقّب تحركات قبائل سنوسية كانت تهاجم الواحات من اتجاه الغرب قادمة ليبيا عن طريق واحات الداخلة.
حملة السنوسيين
لم يأتِ التحصّن فوق الجبل من فراغ؛ فالحملة السنوسية التي اندلعت أواخر 1915 أدخلت الصحراء الغربية في فصلٍ عسكري مفتوح، انطلقت مجموعات مسلّحة متحالفة مع العثمانيين من حدود ليبيا، وضغطت على مراكز بريطانية ومصرية في خط الواحات الممتد من سيوة إلى البحرية فالفرافرة والداخلة ثم الخارجة.
هذا ما أكده محمد محسن، قائلا : إنه سرعان ما أعادت القوات البريطانية تنظيم خطوطها ودعّمتها بقوات الهجانة ووحدات السيارات المدرعة، ومع حلول ربيع 1916 كانت كفّة المبادرة تميل لصالحها، بينما تراجعت مجموعات السنوسيين عن بعض المواقع الداخلية، ومن بينها خط الخارجة.
ماذا بقي فوق القمة؟
أضاف محمد محسن، أن الزائر يعثر فوق القمة وحولها على بقايا تدلّ على حياةٍ عسكريةٍ قصيرة: أجزاء من أسلاكٍ شائكة، قواعد مصابيح قديمة للمعسكر، علب طعامٍ معدنية سبقت البلاستيك بسنوات طويلة، وقطعًا من أحزمة جنودٍ صدئت مع الزمن؛ وكلها تشهد على نمط عيشٍ مقتصد وخفيف الحركة، وعلى مناوبةٍ ليلية نهارية لمراقبة الدروب.
ويؤكد أن اختيار القمة جاء لاعتبارات الرؤية من ناحية، ولإبعاد النقطة عن نطاق رمي الغارات المباغتة من ناحية أخرى من جانب السنوسيين؛ فالتضاريس المفتوحة تمنح المدافعين إنذارًا مبكرًا، ويوجد بقمة الجبل مقر الثكنة العسكرية نقوشٍ وتعليقاتٍ تركها جنود الاحتلال، وإشاراتٍ إلى أرقام كتائب ووحدات، وبقايا عبوات سمك التونة وقايش لحزا مجند من الإنجليز ومصباح قديم للإضاءة ما يمنح الموقع قيمة توثيقية إضافية.
سياحة الذاكرة والجيولوجيا معًا
أكد محمد محسن، أن الجبل يجذب اليوم نوعين من الزائرين: باحثون وهواة جيولوجيا، يستوقفهم السطح المتفحم فوق الرمال الذهبية؛ وسائحون مهتمون بتاريخ الحرب، وبعضهم بريطانيون يأتون لاستعادة ذاكرةٍ عائلية أو لالتقاط صورةٍ مع نقشٍ باهت يحمل اسمًا يعود إلى 1916.
قائلًا: إن هذا التزاوج بين جيولوجيا المنطقة القديمة وأرشيف الحرب يصنع للموقع هويةً مركّبة قلّ أن تتكرّر في منطقةٍ واحدة من مصر، ويمنحه فرصةً لمنتج سياحي خاص بواحات الوادي الجديد يكمّل معابد هيبس ومقابر “البجوات” ومسارات “درب الأربعين” طريق القوافل قديما ، بينما طريق الخارجة – الداخلة أو درب الغباري قديما كان ممرا للقوافل التجارية والمتجهة نحو واحات الداخلة غربا.
لماذا جبل الإنجليز مهم؟
يجيب محمد محسن، لـ”مصراوي”: “القيمة هنا مزدوجة؛ فالجبل يختزن درسًا في الجغرافيا والجيولوجيا، ويمنح في الوقت نفسه نافذةً على لحظةٍ عسكرية شكّلت وعي الصحراء الحديثة، مضيفًا أنّ العثور على بقايا المصابيح وعُلب الطعام وأدوات الجند يخلق صلةً ملموسة بين القارئ وحكاية 1916.
“جبل الإنجليز” الآخر في الواحات البحرية
اختتم محمد محسن، حديثه لمصراوي، لافتا إلى أنه يجدر التنبيه إلى أنّ اسم “جبل الإنجليز” يُطلق أيضًا على قمةٍ شهيرة في الواحات البحرية بمحافظة الجيزة، حيث أُقيم موضع مراقبة خلال الحرب العالمية الأولى فوق جبلٍ يُلقّب أيضًا بالأسود بسبب حجارته الداكنة، هناك، القمة كانت موقعًا للإنذار والرصد، وما زالت بقايا مبانٍ حجرية شاهدة على ذلك. وذكر هذا التشابه يفيد في التفريق بين جبل الإنجليز بالخارجة موضوع هذا التقرير، وذلك الجبل الموازي في الواحات البحرية، فالمسمّى واحد والسياق العسكري متقارب، لكن الموقعين منفصلان جغرافيًا وإداريًا.
