جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في رواية محمد عبد العال الخطيب »حارة الصوفي: آخر سلاطين الجنوب« (دار دوِّن، 2024) تنفتح أمامنا أبواب الخيال التاريخي Historical fictionوهو نوعٌ أدبي تجري حبكة أعماله في بيئةٍ ما تقع في الماضي. من عناصر الخيال التاريخي الأساسية جريان أحداثه في الماضي وإيلاؤه اهتمامًا لأخلاقيات الفترة المصورة، وظروفها الاجتماعية، وتفاصيلها الأخرى. يفضل المؤلفون بصورة متكررة دراسة شخصيات تاريخية مرموقة في هذه البيئات، ما يمنح القرّاء فهمًا أفضل للطريقة التي كان من الممكن لهؤلاء الأفراد أن يستجيبوا بها لبيئاتهم.
نتابع عبر صفحات الرواية (176 صفحة) حكاية رجل يبحث عن نفسه، ورجل آخر تبحث نفسه عنه، في الوقت الذي يبيّن لنا الروائي محمد عبد العال الخطيب كيف تحتوي كل رواية تاريخية، على نوعين من الحقيقة: أولًا الحقيقة الواقعية والحرفية في تسجيل الأحداث الفعلية والأفراد والأماكن والأزمنة؛ ثانيًا: الحقيقة الفلسفية والمنطقية للتعليق الذي يدلي به المؤرخ أو الروائي كتابيًا حول معطياته.
لا جدال في أن التاريخ والرواية التاريخية يختلفان في الهدف، وهما بالتالي نوعان مختلفان من الكتب والكتابة. إنهما ينتميان إلى فئات أدبية منفصلة، ولا يخضعان لنفس أساليب البناء أو لنفس القيود والضوابط النقدية.
غنيٌ عن القول إن التاريخ والرواية التاريخية يتشابهان من حيث أنهما يقدِّمان تعليقًا فلسفيًا على الماضي، مباشرًا أو مفهومًا، استنادًا إلى نفس أنواع البيانات الواقعية المستمدة من نفس المصادر. وكلاهما يجمع بين أنواع متشابهة من الحقيقة، الواقعية والفنية.
في »حارة الصوفي: آخر سلاطين الجنوب«، نعيش بين جنبات الحارة ونستعيد شريط رحلة عجيبة وصلت قديمًا من السودان إلى مصر، عاش بعدها أبطال هذه الحكاية مصائر لم تكن في الحسبان، وأخذ كلٌّ منهم يبحث عن الحلقة المفقودة في حاضره ومستقبله، ومستقبل بلاده القابعة تحت حكم الاحتلال الإنجليزي الظالم.
تُركِّز الرواية على قلادة غريبة قريبة لا تفارق صدر »صلاح الدين«، تحمل صورة مسجد في السودان وتنتمي إلى رجلٍ كل علاقته بهذا البلد أنه كان يعيش في »حارة الصوفي« المصرية، التي تحتضن السودانيين بمختلف أطيافهم، قلادة تحمل حكاية طويلة لا يعرف سرَّها سوى رجلٍ واحد، رجلٍ يعرف الحكاية كاملة ويحمل من الأسرار ما قد يغيّر من مصائر الجميع بين عشيةٍ وضحاها.
تتحدَّث الرواية، إذن، عن حارةٍ في قلب القاهرة، يقطنها السودانيون الذين جيء بهم بعد فتح مصر للسودان، فصار السودان في قلب القاهرة بأطيافها وأبنائها، عاش بينهم مصري بعدما أنهى عمله في الجندية بالجيش المصري في السودان.
افتتاحية الرواية بالغة الأهمية:
»صاحت الديوك في الساعات الأولى من الصباح أعلى منزل الحاج أمين معلنة عن قدوم يوم جديد، غير عابئة بكونه يومًا غائمًا، فتلك الكائنات خُلِقت لتلك المهمة وتستمتع بها مهما حدث، ودائمًا ما تكون البداية من سطح هذا المنزل، ثم يتبعه باقي المنازل، حيث ديوك منزل الزبير، ثم سطح النجومي، ثم سطح التعايشي وشيخ الدين ودار الفضل وبيت النمر، وجميع أسطح السودانيين الذين سيطروا تمامًا على حارة الصوفي بمنطقة عابدين، لكن صيحة البداية لا تتغير، وكأن الديك يتباهى ويعلن كل يوم أنه ديك منزل الرجل المصري الوحيد في تلك الحارة، خاصة أن مصر تتولى حُكم السودان بأكمله! «(ص 7).
اهتم الروائي بالبحث التاريخي والاجتماعي بل والجغرافي، فجاء عمله قطعة فنية متقنة، ومن ذلك على سبيل المثال اعتناؤه بأنواع الأطعمة التي يتناولها أبطال تلك الثقافة؛ إذ نقرأ:
»في تلك اللحظة دلفت »شمس« إلى السطح ووضعت طبقًا من كعب الغزال وآخر من المديدة أمامهما «(ص 101).
بالمثل، درس الروائي جغرافيا الشوارع والحارات بدقة. انظر إلى مسار صلاح الدين، أو »سلاطين« كما ينطقها أهل المنطقة في حارة الصوفي:
»اتجه يسارًا صوب ميدان الأوبرا حيث يستقر تمثال إبراهيم باشا، عبره مرورًا على قهوة »متاتيا« حتى بلغ ساحة العتبة الخضراء ليستقل الترامواي الأصفر رقم 30 المتجه إلى بولاق، أعطى الكمساري خمسة مليمات والتقط تذكرته، ثم ألقى نظرة سريعة عبر النافذة الواسعة على القضبان الممدودة في الأرض، وأخرى على الأسلاك المنصوبة في الهواء والمتصلة بعربة الترامواي «(ص 9).
في موضعٍ آخر نطالع:
»أسرعَ الخطى؛ رغبة في استغلال وجوده ببولاق ليذهب إلى الوالي أو الحاج »خير« أحد قاطني حارة الصوفي، التي تركها منذ بضع سنين واستقر في بولاق فلا يبعده عن المطبعة سوى بضع حارات، أقام بمنزل قديم هو وزوجته وابنته، فتح حانوتًا اسمه قباب السودان، ليصنع الجفان والقدور وتنانير الطين. بعد دقائق بلغ صالح حارة الوالي ليجد الرجل الستيني قد انكب على إحدى القدور، وقد ظهرت عوامل الدهر على ظهره الذي انحنى وتقوّس وحوته الشملة التي تدثر بها فوق جلبابه الأبيض، جميعها بطعم السودان لم يشذ عنها سوى الوشاح الأزرق الحريري الذي يطوق رقبته« (ص 12).
والجفان جمع جفنة، وهي الوعاء الكبير. أما الشملة فهي قطعة من الصوف تغطي الجسم وقاية من البرد.
أما الإطار الزمني، فيحدده الروائي بصنعة وذكاء؛ إذ يقول:
»لم يستفِق إلا على صوت زملائه بالمكتب حوله وهم يُبدون دهشتهم من الأنباء التي انتشرت مؤخرًا، فقد عزلت بريطانيا الخديو عباس حلمي الثاني، ولم تقرر شكل الحُكم في مصر بعد، ويُقال إنها في مفاوضات مع حسين باشا كامل ابن الخديو إسماعيل ليتولى حُكم مصر لكنه أبدى تحفظه« (ص 16-17).
تختبر الرواية المشاعر الحقيقية بين المصريين والسودانيين بأن أوجدت هدفًا يتصارعون عليه، وفي الوقت ذاته أوجدت عدوًا واحدًا لهما.
كل هذا في إطار خلفية تاريخية تُبرز أحداثًا في غاية الأهمية مؤثرة على تاريخ مصر والسودان، ولم يلق عليها الضوء الكافي لإبرازها، منها الثورة المهدية في السودان وكيف كان لها عظيم الأثر على مصر في ترك أملاكها هناك وفى جلب أبناء سلاطين السودان إلى مصر لضمان عدم معاودة الثورة على المصريين والإنجليز، أحداث الحرب العالمية الأولى في مصر، الأعمال المخابراتية التي قام بها الإنجليز لضمان استقرار حكمه في مصر والسودان إبان الحرب، الثورة العربية في الجزيرة العربية، رواية حملت أسرارها القلادة الغامضة التي أشرنا إليها.
ورغم كل هذه الأحداث فإنها استطاعت أن تغزل الكثير من المشاعر الإنسانية الفريدة فحبكت أسطورة حُبٍّ في علاقة أشبه بالصوفية، ورسمت علاقة البطل بوالدته التي لم يرها وحملت لغزًا غامضًا.
نقرأ:
»بينما هرب سلاطين إلى الماضي إلى حيث سلطان والده، أراد أن يذهب إلى قرب أمه قبل أن يبحث عن آثار سلطان والده في السودان، انطلق متخفيًا ومرتديًا العمامة وأرخى طرفها على وجهه، حتى لا ينتبه إليه أحد. بلغ أحد مرافئ ضفاف النيل ليستقل أحد المراكب المتجهة للجنوب حيث الحدود مع السودان، تمنى لو صار قطرة ماء تذوب في ماء النيل لتصل إلى الجنوب في سرعة، رغم أنه يتجه ضد تيار النيل المتجه إلى الشمال فإنه شعر بترحابه الشديد عندما وجد ماءه فائضًا وكأنه يحثه للعودة إلى الجنوب، لقد حمل هذا الشريان من قبل أحلامًا وهمومًا وأماني إلا أنه لم يحمل من قبل قلبًا يهفو إلى الماضي كقلب سلاطين« (ص 173-174).
يتجلى الشجن في مواضع كثيرة من الرواية، ومن ذلك ما قاله محمد بن عمر بن نمر أمام قبر والده »عمر ود محمد ود نجم« سلطان شندي بالسودان، في مقابر الإمام الشافعي:
»لماذا يضعون الصبار على القبور؟ هل هي مواساة لزائرها أم لتعزيز صبر المتوفى على الهجر مثلما ينمو الصبار رغم ندرة المياه؟ آاه يا السودان« (ص 18).
تطرح الرواية أوراقًا كما لو كانت خفية على القراء، وتختبر المشاعر الحقيقية بين أبناء الوادي؛ إذ نسج الكاتب في تلك الرواية تاريخًا وعشقًا وصوفية، فحملت الكثير من الإثارة والتشويق.
اللافت للانتباه أن الكاتب اكتشف تلك الحارة أثناء جولاته الاستقصائية في منطقة الأزبكية بجانب »جروبي« شارع عدلي عند كتابته لروايته السابقة »واحترقت أوراق القضية« التي عالجت أحداث حريق القاهرة عام 1952، والتي حاول خلالها أن يتقصى أماكن الحريق والأدلة الجنائية التي تم إهمالها عند التحقيق في قضية حريق القاهرة.
محمد عبد العال الخطيب هو كاتب مصري، من مواليد الإسكندرية عام 1974، يشغل منصب نائب رئيس هيئة قضايا الدولة وعضو اتحاد كتاب مصر شعبة الرواية، صدرت له عدة روايات منها »البهلوان«، و»أخطر الرجال«، و»تحت الحصار«، و»أرض بلا ظل«، و»احترقت أوراق القضية«، وعدة كتب تاريخية منها »قضايا الدولة عبر التاريخ«، و»عصر النخبة«، و»قناة السويس من المهد حتى التحرير«.