جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يُعد أفلوطين واحدًا من أعظم الناطقين باللسان اليوناني في المرحلة الأخيرة من مراحل الفلسفة اليونانية، وهو خير من يُمثل التطور الذي حدث في ميدان الفلسفة اليونانية في عصره الذي امتزج فيه التفكير الفلسفي والفكر الديني الشرقي؛ ولهذا قيل إنه جسد في فلسفته نهاية وبداية في الوقت ذاته؛ نهاية منهج اليونانيين العقلي في حل مشكلات الفكر والحياة، وبداية منهج التفكير الذي امتزجت فيه الفلسفة بالدين في العصور الوسطى.
كما أنه صاحب تأثير عظيم في التطور الأول للفلسفة الإسلامية، وفي ظهور التصوف الفلسفي في الإسلام عند شهاب الدين السهروردي ومحيي الدين بن عربي. وقد جاء هذا التأثير نتيجة الطابع الديني لفلسفته واتجاهه الصوفي الوثيق الصلة بآرائه في أصل وطبيعة وغاية النفس الإنسانية، ودعوته إلى تطهيرها لتعود إلى العالم الروحي والمصدر الذي جاءت وهو (الواحد) أصل ومبدأ وغاية جميع الموجودات.
ولهذا أطلق عليه المسلمون اسم “الشيخ اليوناني”، بعد أن تعرفوا عليه من خلال كتاب “أثولوجيا أرسطو طاليس” المنسوب إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، والذي ثبت مؤخرًا أنه مأخوذ عن بعض أجزاء من المقالات الرابعة والخامسة والسادسة من كتاب أفلوطين السكندري التي حمل اسم “التاسوعات”.
ولد أفلوطين السكندري في مدينة ليكوبوليس في صعيد مصر (أسيوط حاليًا) سنة 205 ميلاديًا، وبها نشأ وتعلم وأقام حتى سن الثامنة والعشرين من عمره، ثم انتقل إلى مدينة الإسكندرية لدراسة الفلسفة، وأقام بها اثني عشر عامًا، انتقل بعدها إلى مدينة روما وفيها أسس مدرسته الفلسفية التي عُرفت في تاريخ الفكر الفلسفي باسم “الأفلاطونية المُحدثة”؛ لأنها كانت في جزء كبير منها امتدادًا للفلسفة اليونانية بمدرستها الأفلاطونية العريقة التي أسسها الفيلسوف اليوناني أفلاطون قبل فيلسوفنا أفلوطين بحوالي خمسة قرون.
وقد أقام أفلوطين في روما لم يفارقها، ولم يعد مرة أخرى إلى مسقط رأسه في أسيوط أو إلى مدينة الإسكندرية حتى توفي بها عام 270 ميلاديًا.
روى لنا فورفوريوس الصوري(حوالي 234 – 305 م) تلميذ أفلوطين وجامع وناشر مقالاته الفلسفية في كتابه عن “حياة أفلوطين”، أن أستاذه عندما أصابته حمى الفلسفة وهو في سن الثامنة والعشرين من عمره، انتقل إلى الإسكندرية لدراسة الفلسفة، وهناك استمع إلى أبرز مُعلِّميها في المدينة، إلَّا أنه كان يعود بعد الاستماع إلى دروسهم حزينًا لأنه لم يجد من بينهم من يُلبى حاجة روحه وعقله، حتى وفق للاستماع إلى دروس الفيلسوف السكندري أمونيوس ساكاس فقال لأصحابه: “هذا هو الرجل الذي كنت أبحث عنه”.
وظل أفلوطين تلميذًا للفيلسوف أمونيوس ساكاس إحدى عشرة سنة لا يُفارقه إلى أن التحق بحملة الإمبراطور “جورديان” التي كانت تسعى إلى غزو بلاد فارس، مدفوعًا برغبته في اختبار فلسفة الشرق والفرس والهنود اختباراً مباشرُا، وهي الفلسفة التي يبدو أنه تعرف عليها من خلال دروس أستاذه أمونيوس ساكاس.
لكن الإمبراطور جورديان هُزم في بلاد ما بين النهرين، وقُتل بواسطة جنوده، ولهذا رحل أفلوطين إلى مدينة انطاكيا ومنها إلى مدينة روما وله من العمر يومئذ أربعون سنة. وعندما وصل أفلوطين إلى روما وفي نفس العام أسس مدرسته، وبدأ في إعطاء محاضراته ونشر فلسفته.
ورغم ذلك لا يمكن التشكيك في انتماء أفلوطين السكندري إلى صعيد مصر الذي ولد وعاش وتعلم فيه حتى سن الثامنة والعشرين من عمره، ولا إلى مدينة الإسكندرية التي ارتبط اسمه بها، ودرس الفلسفة في مدارسها، وعاش فيها أثنى عشرة عامًا قبل رحيله إلى روما.
أما القول بأن أفلوطين كان يونانيًا خالصًا في تكوينه الفكري وثقافته، وأنه بدأ في كتابة مقالاته أثناء إقامته بروما، وفيها أسس مدرسته الفلسفية، وهذا يجعله فيلسوفًا يونانيًا، وينفي تأثير الفلسفة المصرية والشرقية علي تكوينه ومذهبه الفلسفي، فهو رأي مردود عليه؛ لأنه يغفل حقيقة أن أفلوطين عاش في مصر ما بين أسيوط والإسكندرية حتى سن الأربعين، وفيها قرأ ودرس وتكون الأطار العام لفكره ومذهبه، وتحدد طابع وغاية فلسفته.
كما يغفل هذا الرأي أيضًا ضرورة التمييز في مذهب أفلوطين بين نقطة الانطلاق الفلسفية الصريحة التي سُجلت بالكتابة، ونقطة الانطلاق الخفية التي عرف فيها ذاته وغايته، واكتملت فيها رؤيته، وعرف ما يُريد أن يقوله.
وهي النقطة التي تكونت لديه في مصر أثناء إقامته في أسيوط ودراسته في مدينة الإسكندرية مع أستاذه أمونيوس ساكاس، والتي جعلته في النهاية عبر شخصيته وفلسفته وتعاليمه الروحية فيلسوفًا صعيديًا مصريًا سكندريًا شرقيًا بخلفية يونانية، وفيلسوفًا يونانيًا بخلفية صعيدية مصرية سكندرية شرقية. وكلاهما في شخصية وتكوين وفلسفة أفلوطين وجهان لعملة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما.