جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
بمقاطع لا تخلو من عذوبة وخِفة ظل حينًا وحزن شفيف حينًا آخر، تقودك رواية فاطمة العوا «أنا وهيبة» (دار السراج، 20124) إلى عالمٍ فريد أعمدته الرئيسية من النساء.
ببساطةٍ شديدة، ولغة سلسة على رغم قسوة المشاهد المحكية، يكشف هذا العمل البحثي/الروائي النقاب عن رائدة نسوية مجهولة في تاريخ مصر، وتحكي في الوقت نفسه عن أربعة أجيال من النساء المقاومات المكافحات ممن سعين إلى شق طريقهن وسط تراكم المسؤوليات وتحديات كل جيل.
مع سطور الرواية التي تقع في نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، نكتشف أن «وهيبة» هي وردةٌ مطرزة على قماش الزمن، لنْ تكبر، ولنْ تصغُرَ، ولكنها لنْ تذبُلَ مطلقًا.
وإذا كان هذا البحث الاستقصائي المضني، المكتوب بلغةٍ حميمة، يسمح لنا بتتبع شجرة العائلة والدخول في مناطق شديدة الخصوصية للكاتبة والمحامية فاطمة العوا، فإن تمكُنها من صوغ رحلة الكشف عن جدتها «وهيبة» في قالب أدبي أو ما يشبه الروائي، يجعل من «أنا وهيبة» عملًا رفيع المستوى بكل المقاييس، يضاهي في جهده الاستقصائي كتاب إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» (الكتب خان، 2019) وفي ذاتيته الساحرة كتاب فاطمة قنديل «أقفاص فارغة» (الكتب خان، 2021).
ترسم الكاتبة الملامح الجسدية والنفسية لأبطالها، وتُبيِّن الاختلافات بينهم، في حين تنقسم الرواية بين زمن ماضٍ وآخر معاصر.
تصف صورة «وهيبة»الأولى التي تعطيها لها ابنة خالتها: «لا يظهر لونُ بشرتها في الصورة الأبيض والأسود، واضح من الصورة أن الإضاءة كانت شديدة، بيضاوية الوجه، يظهر بوضوح كُحل العينين، يحددهما ويبرز قوتهما، نفسُ طريقة أمي في وضع الكُحل، أنفها رفيعة طويلة طويلة منتهية بأرنبة أنفٍ شبه مستديرة، رغم أن طلاءً خفيفًا رقيقًا واضحًا على شفاه ممتلئة مرسومة رباني برقة، شعرها الغزير يحيط بوجهها، وقد فرقت فرقًا جانبيًا وعقصت شعرها (شنيون) للخلف، تنزل على جبهتها شعراتٌ قصيرة تحيط وجهها، تبتسم ابتسامة خفيفة وتنظر للكاميرا بتميمٍ ووهن، أو رقة لا أستطيع يقينًا الجزم» (ص 33).
ثمة دفء في السرد، ومساحة كافية للتأمل في الأفكار والأحاسيس أو المشاهد التي تتكفل بفتح أفق شعوري للقارئ جدير بالبقاء طويلًا في الذاكرة.
يتجاور الوصف المكاني مع تقاطعات نفسية في الرواية التي لا تنساق فيها فاطمة العوا مع فكرة الاستسهال، حتى تكاد تشعر أن هذا العمل الروائي مكتوب _أو أعيدت كتابته- على امتداد عدة سنوات. ولأنها معنية بالموضوع، فإنها لا تنسى توفير مناخات وأجواء مناسبة لكل نقلة في «أنا وهيبة»، أو تجد لها إطارًا زمنيًا، أو مشهدية تمنح الصور الأدبية والإنسانية المبثوثة أبعادًا ودلالات عميقة.
تبدأ الرواية بموقف عصيب ومكان شديد الوطأة على النفس: «تركتُ فراشَ المرافق في الغرفة ذات اللون الأخضر الكئيب المطلة على شارع الخليفة المأمون، وجامعة عين شمس التي تعجُّ بالحياة، لا تتوقف حركةُ الطلبة دخولًا وخروجًا من البوابات، بينما المشفى المقابل الذي نمكثُ فيه منذ أشهر مُثقلٌ بظلال الموت وقسوةِ الوداع، والأمر أثقل وأقسى في عنبر الحالات المستعصية الذي أرافقُ فيه أمي التي تكافح السرطان منذ خمس سنوات» (ص 7).
وحين نقترب أكثر من شخصية الأم «أسمهان»، بوسعنا فهم الكثير عنها.
«لم أعرف عنها قبل مرضها إلا الأم الصارمة التي تُربي خمسة أبناء في ظل غيابٍ متكرر لوالدهم بسبب عمله في أصقاع العالم. خاطت لي مرة جرحًا تحت عيني بالإبرة والخيطالأسود، ومرة أخرى في قدمي بالإبرة والخيط الأبيض، وأعادت كتف أختي المخلوع بعد أن طلبت مني ومن أخي إمساكهما بقوة، بينما أنا أسمع صراخَ أختي وأغمض عيني في فزع، فيعيدني صوتُ عودة الذراع إلى تجويفه وضحكات أمي؛ إلى وعيي، وأنا دَهِشة مما تفعل هذه المرأة» (ص 38).
إلا أن المرض يجتاح كل خلايا هذا الجسد القوي.
«ها هو السرطان يعطي الضربة القاضية بلا أي مقاومة من أمي التي حسمت رفضَ إكمال رحلة العلاج بقولها لأبي: «المؤمنين مش عايزين يعيشوا للأبد يا محمد، لأن فيه جنة»، فتمَّ للمرض ما أراد، وانفردَ بها دون أي حوائط صد» (ص 7).
لحظات الاحتضار والوفاة قاسية ومؤثرة إلى أبعد حد، ولكن «بعد ساعات كان جسدُ أمي يخرج من المستشفى اصطفت أعدادٌ كبيرة من الممرضات على جانبي الممر الذي مرَّ فيه نعشُها، ورفعنَ جميعًا أيديهن بالتحية لها، عرفتُ فيما بعد أن الطواقمَ الطبية تحيي زملاءهم المغادرين بهذا الشكل، كانت الممرضات ترتدينَ ألوانًا مختلفة بينها الوردي، والأزرق الغامق، والأبيض، كأنهن زهورٌ على جانبي الممر الأخضر الذي يخرج منه نعشُ أمي، وكأنه يسير في حديقة مُزهرة.. حديقة في الجنة» (ص 10).
«أهل أمي من الصعيد، لو يؤول الأمر إليهم لدُفنوا مع الميت غير مُفارقين له أبدًا، «حزنهم صعيدي»، هكذا يقال عن الحزن الشديد في «برّ» مصر» (ص 10).
«كأنَّما وفاةُ الابنة بعثت الأمَّ إلى الحياة، غادرت أمّي فعادتْ جدتي إلى الحياة، كيف يُغيِّب الموت نفسًا لتعودَ أخرى بغير حسابٍ ولا ترتيب، لا ندري مَن نودِّع ومَن نلتقي أو متى» (ص 15).
بعد مرور أيام العزاء، تبدأ بطلة الرواية في البحث والتقصي عن هوية «وهيبة» التي خلط بينها زائر المستشفى المُسن وبين البطلة في أكثر من مناسبة. تتساءل البطلة عن هذه المرأة وسر إخفاء أمها لها وسبب اتفاق الجميع على هذا الإخفاء، لتكتشف –بعد محاولات تقصٍ كثيرة- «أن جدي تزوجها بعد طلاقه من زوجته الأولى التي رُزقَ منها ثلاثة أبناء. أنجبت وهيبة منها –هي الأخرى- ثلاثة أولاد؛ بنتين وصبيًا، ثم غادرت في صمتٍ وهي صغيرة عام 1948 (ص 15).
كانت وهيبة حاضرة رغم الغياب بصورة فوتوغرافية قديمة في كل غرفة، ومع ذل ظن الجميع أن هذه الصور جزءٌ من شغف الجد بهواية التصوير واقتناء اللوحات الفنية.
تكتشف الساردة أنها حفيدة «وهيبة»، وأن أمها الحاصلة على الماجستير ثم الدكتوراه في التمريض، هي ابنة هذه السيدة الغامضة.
تتساءل البطلة:
«هل كانت ذكرى «وهيبة» تؤرقهم، فكان قرارًا جماعيًا صامتًا من جدي وأولاده بعدم إخراجها للعلن؟ أم ظوا أن لا أحد سيُقدّر قوة وجودها في نفوسهم، ففضّلوا الاحتفاظ بها لأنفسهم» (ص 17).
بعد خمسة وعشرين عامًا على رحيل أمها، تصطدم الساردة بصخرة إصابتها بالسرطان، فيسيطر عليها شعورٌ بأنه يجب أن تُعلِّم ابنتها كل شيء قبل أن ترحل.
«في خضم هذا وقعتُ في ذات ما فعل جدي ومن بعده أمي وخالتي، وضعتُ لابنتي أهدافًا مستحيلة، يجب أن تجيد الطبخ مثلي، يجب أن تتعلّم الخياطة، يجب أن تذاكر آلاف الساعات، رغم تحصيلها السريع الذي يفوقني بمراحل، يجب.. ويجب.. ويجب» (ص 24).
«أتستدعي أفكارُنا ومخاوفُنا المصائر؟ أم أن المكتوب مكتوب؟ هل الفحص المبكر أنقذني من مصيرٍ مشابه لأمي، أم هو آتٍ إن عاجلً أو آجلًا؟ قالت «وفاء» صديقتي قبل وفاتها: «كنت مستنياه من زمان»، الشيء الوحيد الذي وددتُ قوله لوفاء: لماذا لم تنتظري أمرًا مختلفًا؛ السعادة، الشراكة، الصحة؟ يبدو الأمل صعبًا» (ص 24).
«في الطائرة من «هيثرو» للقاهرة سيطرت عليَّ أسمهان أمي ووهيبة» (ص 24). فور عودتها من لندن، تعاود الساردة البحث عن وهيبة، وتتفرغ لمكالمات الأقارب لوضع قائمة بالأفراد ممن هم على قيد الحياة ويعرفون هذه السيدة.
وبالرغم من تحفُّظ كثيرين من أفراد الأسرة على فتح الملف القديم لفقيدة العائلة، ووجود «إرادة جمعية بنسيان الماضي وعدم الغوص فيه» (ص 28)، فإن البطلة تصر على حقها في معرفة المزيد عن «وهيبة». تقول: «ربما لا أبحث عن جدتي، ربما أبحث عن أمي؛ أمي التي وجدتُ للصداقة معها طعمًا جميلًا مؤخرًا بعد مرضها» (ص 37).
بالبحث والتقصي، تعيد الساردة اكتشاف جدتها: «وهيبة»، التي يعود إليها الفضل في التحاق كل بنات طما بالمدارس. امرأة تعود أصولها إلى قبيلة حرب المهاجرة من الحجاز إلى صعيد مصر. تكتشف أن «جد وهيبة هو أول من سكن طما من آل حرب الذين جاءوا لمصر من الجزيرة العربية، وكان يعمل في مجالات مختلفة من التجارة، وأصبح له مع الوقت قافلة تجارية مع عددٍ آخر من التجار من أصل عربي، وكان تركيزه على تجارة المواشي من السودان وإفريقيا إلى مصر، وفاكهة النبق» (ص 45).
تتوالى المفاجآت، لنكتشف رحلة «وهيبة» (1914-1948) من البيت إلى التعليم، ومن الصعيد إلى القاهرة، وكيف فتحت الطريق أمام التحاق بنات طما بالمدارس، ونعرف أن أول مشروعاتها هو بناء بيتٍ لخدمة الإسعاف في قريتها بدلًا من أن تنفق مالها على الحليِّ وعلى شؤون النساء عامة.
استعانت الكاتبة في بنائها السردي للعمل، باالمونولوج الداخلي ضمن سرد الراوي العليم في وصفه لحال الأبطال، كما اعتمدت على النقلات الزمنية السريعة، ولا شك أنها نجحت في خطف قلوب القراء، الذين سيقفون في النهاية متأملين صور «وهيبة محمد حربي حسين» وتخيُّل مدى قوة هذه الرائدة التي اختارت أن تكون مُدرِّسة للغة الإنجليزية.
«صدقتْ خالتي في ظنها، ها هو العنصر الأجنبي يبرز في تشكيل شخصية «وهيبة»، حياتها، واختياراتها في مسيرتها التي قدِّر لها أن تنتهي مبكرًا، عكس المتوقع لمن كانت في مثل سنها وبصحةٍ طيبة، تأتي ضرباتُ القدر عندما لا نتوقعها مطلقًا» (ص 155).
التاريخ يباغتنا دومًا، خصوصًا حين يكون عائليًا بامتياز.