جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يقول الأستاذ الراحل عباس محمود العقاد في كتابه الشهير عبقرية الصديق: “إن مفتاح الشخصية هو الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهي كمفتاح البيت في كثير من المشابهة والأغراض، فيكون البيت كالحصن المغلق ما تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب. فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق.. وليس مفتاح البيت وصفًا ولا تمثيلًا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد”.
وتأسيسًا على هذا الرأي أظن أن هناك مفتاح شخصية عام ومشترك بين عظماء الإنسانية في كل زمان ومكان، هو “البطولة الروحية” التي منحتهم القوة على اجتياز ليالي الشك والحيرة والقلق، وعذابات اليأس، ومشاق البحث عن الطريق الصحيح الذي يجعلهم يرتقون فوق كل أشكال القبح وضيق الأفق والجهل والتعصب المُحيط بهم، ليصنعوا للبشر آفاقاً جديدة للحياة أكثر جمالاً ونبلاً وإنسانية.
وتلك البطولة الروحية هي التي تجعلنا نتأمل بإجلال سيرة حياة وأعمال هؤلاء العظماء، وهي التي دفعتهم لكي يجدوا لحياتهم معنى وأن يصنعوا لوجودهم قيمة، وأن يتركوا خلفهم أثراً مادياً أو معنوياً يَدل عليهم، يصبح ميراثًا للإنسانية، ويحمل صوتهم للأجيال المقبلة، لكي نراها نحن ونقرأها ونتأملها ونتعلم منها، ونقول بحب شديد: أيها الإنسان.. كم أنت جميل أحيانًا!
أحد هؤلاء العظماء الذين تجسدت في عقولهم وأرواحهم ومبادئهم وخياراتهم وأعمالهم كل مظاهر جمال وسمو الإنسان، هو الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (18 فبراير 1883- 26 أكتوبر 1957) الذي عاش وهو يحمل في قلبه وروحه أجنحة، وهو صاحب الأعمال الأدبية الخالدة مثل “المسيح يُصلب من جديد” و”الإغواء الأخير للمسيح” و”الإخوة الأعداء” و”الأوديسة.. التكملة الحديثة”.
تقول عنه زوجته هيلين في مقدمة سيرته الذاتية التي حملت عنوان تقرير إلى غريكو: “كانت حياته الفعلية مليئة بالمادة والألم والفرح والعذاب، وبكلمة واحدة كانت حياته مليئة بالعزة، ولم ينحن أبدًا”.
وتقول أيضاً: “في السنوات الثلاثة والثلاثين التي قضيتها إلى جانبه لا أذكر أني خجلت من تصرف واحد من جانبه؛ فقد كان نقياً دون مكر، وبريئاً وعذباً بلا حدود مع الآخرين، وقاسياً مع نفسه فقط. وحين ينسحب إلى عزلته فإنه كان يفعل ذلك لإحساسه أن الأعمال المطلوبة منه كثيرة وأن ساعاته محدودة”.
أما نيكوس كازانتزاكيس ذاته، فقد قال عن حياته وأعماله: “إن حياتي هي رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه، وهو يصعد جبلَ مصيرِه الوعر والقاسي، إن روحي كلها صرخة، وأعمالي كلها تعقيب على هذه الصرخة”.
وقد عاش نيكوس كازانتزاكيس حياته تحت وطأة الإحساس بثقل مرور الزمن وقصر العمر بساعاته المحدودة عن تحقيق حلمه في أن يفعل ويقول كل ما كان يريد فعله وقوله؛ ولهذا وجدناه بعد أن بلغ الرابعة والسبعين من عمره يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى لكي يُكمل فيها عمله، ويقول ما كان عليه أن يقول، وأن يأتيه الموت حين يأتي بعد ذلك، فلا يأخذ منه إلا كيسا من العظام.
في هذا المعنى تقول زوجته هيلين: “لقد اعتاد أن يقول لي وعيناه الفاحمتان المدورتان غارقتان في الظلمة ومليئتان بالدموع: “أحس أني سأفعل ما يتحدث عنه برجسون (فيلسوف فرنسي شهير) وهو الذهاب إلى ناصية الشارع ومد يدي للتسول من العابرين والقول: زكاة يا إخوان، ربع ساعة من كل منكم، بما يكفي فقط لإنهاء عملي، وبعدها فليأت ملك الموت كيرون… وجاء كيرون وحصد روح نيكوس في زهرة شبابه. نعم أيها القارئ العزيز لا تضحك، فقد كان ذلك هو الوقت المناسب للازدهار والإثمار بالنسبة لذلك الرجل الذي أحببته، والذي أحبك، صديقك نيكوس كازانتزاكيس”.
وفصل المقال أن كتاب “تقرير إلى غريكو” الذي تضمن السيرة الذاتية الفكرية للأديب والفيلسوف اليوناني الراحل نيكوس كازانتزاكيس، والذي ترجمه إلى اللغة العربية الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، هو عمل أدبي وفكري من طراز فريد، وجدير بالقراءة والتأمل؛ لأنه يُعلمنا دروس إنسانية وقيم ومُثل عليا عظيمة؛ من أهمها أن ضرورة الصدق مع الذات والناس وعدم الازدواجية بين الفكر والقول والعمل. وأن الصعوبات والتحديات التي تُواجهنا في الحياة هي الدافع والمحفز لمواصلة السير والنجاح والصعود إلى القمة التي تليق بنا. وأن العمر قصير جداُ ومهما طال فساعاته محدودة وهذا يتطلب سرعة إنجاز أهدافنا ومشاريعنا المؤجلة. وأن الحياة بدون معنى وغاية وبطولة روحية وعمل وإنجاز وخدمة وإضافة للإنسانية حياة مُهدرة لا قيمة لها. وإن حياة الإنسان يمكن أن تصبح قصيدة إنسانية حية، تجعلنا نقرأها ونتأملها ونقول: أيها الإنسان.. كم أنت جميل أحيانًا!