جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
بقلم: محمد وليد بركات
أثارت قضية إصلاح التعليم وتطويره اهتمام المفكرين والباحثين منذ القدم، وقد ناقش المشاركون في “الحوار الوطني” قضية التعليم، مطالبين بتطوير المناهج وتحديثها، وتدريب المعلمين وتقديرهم، وبناء المدارس وتجديدها، وقلما وجدت من يشير إلى الضلع المهم و”المكسور” من منظومة التعليم، وهدفها ومبتغاها، وهو الطلاب، ودورهم في إنجاح العملية التعليمية أو إفشالها.
ولو كنت مدعوا للحوار الوطني، لعرضت رأيي في هذه القضية في إطار المحاور الآتية:
أولا: إننا لا نسأل أنفسنا عن إيمان الطلاب بالهدف النهائي لعملية التعليم، وبالتالي تتشتت بنا الوسائل وتتشعب بنا السُبل، وتتغير سياسات التعليم مرة بعد أخرى، وفقا لرؤية الوزير المسئول، وهي ظاهرة نتمنى أن تنتهي بوجود المجلس الأعلى للتعليم والتدريب، فإذا كان التعليم الجيد، وفقا للمتخصصين، يتسم بأنه لا يستنزف وقتا ولا جهدا أكثر مما ينبغي، ويبقى أثره ويُستفاد به في مواقف أخرى، فإن تقييم الطلاب لتعليمهم سيكون منخفضا إذا أخضعناه لهذه المعايير، ومن ثم فإن مثابرتهم على التعلم ستكون واهية.
ثانيا: إن دافع المتعلم إلى التعلم يمكن أن يكون متعة في عملية التعلم نفسها، وهذا دافع يصعب التعويل عليه، خاصة إذا قارنّا مشقة التعلم، بلذة الراحة واللعب المتاح للطلاب بين أصابعهم ممثلا في تطبيقات الهواتف المحمولة. ويمكن أن يكون هذا الدافع هو رغبة المتعلم في الشعور بالتقدير الاجتماعي واحترام الآخرين له، أو طمعا في تحقيق الثروة، وهذا العاملان هما اللذان يمكن الاعتماد عليهما في بناء دوافع الطلاب للتعلم، ويكون ذلك من خلال “خلق طلب على العلم والمتعلمين”، فالقاعدة الاقتصادية تقول أن الطلب على الشيء يرفع قيمته، فإذا أوجدنا طلبا مجتمعيا على العلم، فإنه من المنتظر أن تزداد دوافع طلاب العلم حماسا، وهذا الطلب يتمثل في إدارة الموارد البشرية في جهات العمل، بداية بالتعيين، ومرورا بالأجور والحوافز، التي يجب أن تكون مُجزية، لمن يتعمق في فهم ما يفيد عمله من العلوم وتطبيقه. وإن لم نفعل ذلك فإن عزيمة الطلاب على التعلم ستكون رخوة.
ثالثا: إن عملية التعلم لا تتم دون دافع، يُعين المتعلم على تجاوز الصعوبات، ويؤخّر شعوره بالملل والتعب، ويقاوم ميل نفسه إلى الراحة، ومن ثم فإنه من المهم أن يعلم المتعلم “لماذا يتعلم؟”، وبدون شعوره بالحاجة إلى التعلم، فإنه لن يتعلم، ولو جئنا بـ”الناظر صلاح الدين عاشور” ليقول له: “هاتتعلم يعني هاتتعلم!”. ولذلك فإنه لا بد للمتعلم من إجابة واضحة على هذا السؤال. وفي رأيي أن أفضل إجابة هي: أننا نتعلم لنعيش حياة سليمة، بالمعنيين الاجتماعي والبيولوجي! وليس فقط لتلبية متطلبات سوق العمل.
رابعا: عندما دأبنا في السنوات الأخيرة على أن نرفع شعار “ربط التعليم بسوق العمل”، فإننا – دون أن نقصد– جعلنا من هدف التعليم خنجرا مسموما في ظهره، إذا لا تتسم سوق العمل نفسها بالمعيارية المثالية دائما، ولا احترام التخصص العلمي، ولا تقدير التعليم الجيد، وإنما تقوم في كثير من الحالات على حمل الشهادة الدراسية أكثر من التشبع المعرفي نفسه، وشتان بين الأمرين، فالأول جعل هدف الطلاب من التواجد في المدارس والجامعات تحصيل الدرجات والشهادات، أما الثاني فيركز على تحصيل العلم نفسه، وبالتالي صار تركيز قطاع من الطلاب والمعلمين مُنصبّا على الإجابات النموذجية، والملازم الملخّصة، ودرجات الحضور، وتقدير التخرج، وهو ما جعل جدية الطلاب في طلب العلم هزيلة.
العيب الثاني في سوق العمل، هو قيمة الإنجاز المقترن بالسعي، وقد كان كدّ الفرد في تأهيل ذاته، علميا وعمليا، معرفيا ومهاريا، نفسيا واجتماعيا، هو المفتاح الرئيس لبوابة الإنجاز، صحيح أن الطرق الملتوية كالوساطة- كانت موجودة على مرّ العصور، إلا أن القاعدة كانت تقول إن الواسطة قد تمنحك الفرصة، ولكنها لا تضمن النجاح، واليوم أمست الواسطة -في بعض الحالات- تفرض النجاح فرضا، وهذا الوضع أفرز إهمالا جسيما في حرص الطلاب على التعلم الحقيقي، وممارسة الاجتهاد في تحصيل العلم، مقابل الاستسهال، و”جمع الشهادات”، و”تستيف الورق”، و”تصوير الشغل”، وغير ذلك من المفردات والمفاهيم المعروفة لكل المصريين.
خامسا: التحولات التي طرأت على مفهومي النجاح، والقدوة، خلال العقد الأخير، إذ تغير الأول من تحقيق الهدف المتمثل في إفادة المجتمع، إلى تحقيق الشهرة والمال بأي وسيلة كانت، ولو اقتضى الأمر أن يشتهر أحدهم بالفحش أو البلاهة، أما المفهوم الثاني فقد أتي تغيره كنتاج طبيعي لتغير الأول، فالناجحون بحق، في مختلف المجالات، كانوا قدوة لغيرهم، فلما ضلّ الناس مفهوم النجاح، ضلّوا بالتبعية مفهوم القدوة، وكلما حقق بعضهم الشهرة والمال، طمح آخرون إليهما، ملتمسين نفس الوسائل، والتي تفتقد إلى القيمة المضافة، لدرجة أن بعضهم ترك عمله طبيبا أو معلما أو مهندسا، ليتحول إلى “بلوجر”، يحصد أضعاف الأرباح بأجزاء من الجهد، إلى الدرجة التي جعلت أحدهم يكتب تعليقا على نتيجة الثانوية العامة: “مش مهم المجموع.. الشاطر اللي يجيب فلوس في الآخر”!.
سادسا: إن انتقال أثر التعليم إلى خارج مؤسسات التعليم وامتحاناتها هو مؤشر حقيقي لجودته وفاعليته، فعندما نجد المجتمع مكتظا بسلوكيات مرفوضة، قانونيا أو صحيا أو أخلاقيا، تصدر من المتعلمين كغيرهم، فإن هذا يعني أن أثر المعرفة والتفكير العلمي لم ينتقل إلى الحياة بوجه عام، ولم يتم تطبيقه في حل المشكلات، وإدارة النزاعات، واستغلال الموارد، وطلب الحقوق، وأداء الواجبات.
سابعا: إنه لا يكفي أن يعلم المتعلم تقييمه بشفافية، بل يجب أيضا أن يعلم درجة تقدمه على كل معيار مهاري أو معرفي، وكذلك تحليل شخصيته وسماتها، وجوانب الإجادة والقصور، وأن يضع لنفسه، بمساعدة معلميه، خطة لتطوير المميزات، وتجاوز التحديات؛ ذلك لأن غياب هذا الأمر يجعل من المتعلم فاقدا “البوصلة”، وعازفا عن التطور، ومتشككا في أمانة المنظومة، وهي إشكالية واضحة في كثير من الاختبارات، خاصة الشفوية والعملية.
إن إصلاح التعليم لا تنقصه الأفكار، فهي غزيرة منسابة، والبحوث والدراسات متراكمة، والخبراء جاهزون، وإنما تنقصنا الإرادة والإيمان بقيمة العلم في حل المشكلات، فإذا توفرا، تغيب الإرادة المجتمعية لتنفيذ الخطط والسياسيات، وتنفصل القيادة عن القواعد التي ليست لديها النية الصادقة في تحمل تبعات الإصلاح وتكاليفه وآلامه؛ من أجل مصالحها وامتيازاتها، فإذا حفّزنا الإرادة المجتمعية، تتعثر الجهود في توفير التمويل اللازم، وتتمزق ببراثن البيروقراطية، وهكذا دواليك ندور في دائرة التخلف المفرغة.
لن يكون الحل إلا بيد عناصر لديها القدرة على كسر تلك الدائرة المفرغة، والنفاذ إلى مركزها لإحداث التغيير المطلوب. ولكن من أين تأتي تلك العناصر؟ ومتى؟ ومن تكون؟ تلك هي الأسئلة التي نحتاج إلى الإجابة عليها.
إن تعثر التعليم ليس منفصلا عن تعثرات مجتمعه، ولا عن كون المجتمع بوجه عام مفتون في قيمه، ولذلك فهو مضطرب، وغير قادر على الثبات بجسارة أمام التحديات والأزمات. وهنا أستشهد بعبارة الدكتور جلال أمين، في كتابه “ماذا حدث لمصر والمصريين؟”، حين كان يقارن الاقتصاديين المصريين من جيل الخمسينات والستينات، بمن تلوهم، فقال: “لم يكن ذلك الجيل مصنوعا من معدن أنفس من الجيل التالي له، إنه فقط لم يتلق ضربات بنفس القسوة التي ضُرب بها من تلاهم”.