10:50 م
الخميس 03 أغسطس 2023
تقرير– مارينا ميلاد:
في بداية يومه، يسحب “عبدالعليم” سيجارة ليُعدل مزاجه بها، كما يعتقد.. وسرعان ما يلتقط واحدة أخرى ثم تلحقها الثالثة خلال وقت قصير.
لم تكن عادة هذا الرجل أن يدخن هذا الكم من السجائر، لكن أزمة ارتفاع أسعارها التي جرت مؤخرًا هي ما اجبرته على تغيير النوع الذي يدخنه بنوع أخر أرخص و”أخف”. ذلك ما يضطره لتدخين أكثر من سيجارة لتوازي سيجارة واحدة من “كليوباترا”.
الأزمة نفسها دفعت محمد جلال إلى الإقلاع عن التدخين تمامًا، حيث زادت أسعار الأنواع الأجنبية التي يفضل شراؤها بشكل مبالغ فيه فجأة، لكن لم يرضيه أن يفعل مثل “عبد العليم” ويبدلها بنوع أقل جودة.
هؤلاء المدخنين الذين يقدر عددهم في مصر بـ18 مليونا، بما يمثل 17.7% من السكان (وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء)، يتأثرون بأزمة زيادة أسعار جميع أنواع السجائر وقلة المعروض منها منذ شهر يونيو الماضي، إذ تجاوز ثمن علبة السجائر الشعبية “كليوباترا” الـ50 جنيها، وهو ضعف سعرها الرسمي تقريبًا.
لثلاثين عامًا، لم تخلو أصابع “عبد العليم” من السيجارة. فقد بدأ علاقته معها بـ”مارلبورو” الأمريكية، ثم اكمل مع “كليوباترا” المصرية، منذ كان سعرها 35 قرشًا حتى وصلت إلى 55 جنيهًا هذه الأيام. ولأول مرة، يقرر “عبد العليم” أن يبدل سيجارته التي اعتاد عليها كل هذه السنوات بأخرى كورية.
يقول الرجل، الذي بلغ الـ46 من عمره، “صدري يؤلمني قليلا منها، ولم اشعر براحة وتحسن مزاج مثلما كان الحال مع السجائر المعتادة.. لكن لا يمكنني الشراء بهذا السعر”.
يقتطع “عبد العليم”، وهو عامل بإحدى الشركات الخاصة، نحو نصف راتبه الذي يبلغ 3500 جنيه، ليشتري علبتين سجائر يوميًا. يحاول أن يدبر نفقات بيته وابنتيه قدر الإمكان دون الاستغناء عنها، فيشتري ذلك النوع الكوري “بين” بأربعين جنيهًا من باعة شارع باب البحر في وسط القاهرة، الذي يقطع له طريقا طويلا من بيته بمنطقة أرض اللواء، كونه الشارع الأرخص سعرًا.
هذا الشارع أشار إليه أحمد سالم (صاحب أحد الأكشاك)، الذي يواجه مشكلة في إمداده بالسجائر من جانب التجار، قائلا: “نذهب إلى ذلك الشارع لشراء كميات من مختلف الأنواع بأسعار تصل إلى ضعف سعرها الرسمي، خاصة سجائر كليوباترا، فنبيعها أغلى بضع جنيهات لنحقق ربحًا”.
لا سبيل أمام “سالم” للشراء بالسعر الرسمي وهو 24 جنيها (بالربح) لعلبة “كليوباترا” إلا منافذ محطات الوقود، التي تتعامل مباشرة مع الشركة، لكنها لا تسمح إلا بشراء علبتين لكل فرد في اليوم الواحد.
أما محمد جلال (32 سنة)، والذي يعمل موظفًا لإحدى الشركات، قرر ألا يستبدل أو يبحث كثيرًا وسط أكشاك ومحال يفرض كل منها سعرًا مختلفًا عن الأخر، كما يتحدث، فتوقف عن التدخين بعد أن وصل سعر علبة سجائر LM التي يدخنها إلى 65 جنيها الآن.
فيقول “محمد”، الذي بدأ التدخين منذ 12 عامًا: “شعرت أنها فرصة لأفعل ذلك وأوفر ثمن السجائر لأشياء أخرى أساسية، خاصة وسط هذا الغلاء”.
وطوال شهر كامل، تبادلت كل الأطراف الاتهامات حول تلك الأزمة. فالمواطنين أمثال “محمد” اتهموا البائعين باستغلالهم، وما كان على الطرف الثاني إلا إلقاء الذنب على تجار الجملة المتعاملين معهم، ومن هؤلاء إلى الشركة الشرقية للدخان.. لكن هاني أمان (العضو التنفيذي للشركة الشرقية للدخان إيسترن كومباني)، خرج ليقول إن “الإنتاج كما هو.. وعلبة سجائر كليوباترا تُسلم للمتعهد بسعر 24 جنيهًا شامل الربح. ومكسب الشركة فيها لا يتجاوز 25 أو 50 قرش”.
فعلب السجائر تمضي يوميًا في طريقها المعتاد من الشركة إلى الموزع الرئيسي ثم تجار الجملة ونصف الجملة، وأخيرًا إلى نقاط البيع. تلك العملية الدائمة المكونة من عدة مراحل، يشرحها “أمان” في حديثه، ويشير إلى أن الخلل في السعر ربما يحدث في المرحلتين الأخيريتين، أي التجار والبائعين.
في غضون ذلك، يرجع إبراهيم إمبابي رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات المصرية، الأزمة كلها إلى تأخير صدور قرار بالتعديل الضريبي الذي جرى في شهر مارس الماضي. السبب الذي يراه أدى إلى تخزين التجار للسجائر خوفًا من زيادة ثمنها واستغلال ذلك في فرض أسعار مرتفعة ومتباينة دون رقابة.
حاول “عبد العليم” أن يفعل كما فعل “محمد” ويقلع عن التدخين في فترة ما، لكنه لم يستمر طويلا وعاد إليها مرة أخرى، فيقول: “بعد الزواج وزيادة الأعباء، أصبحت السيجارة هي المتنفس الوحيد لي في اليوم.. كأنني اٌخرج فيها همومي”.
ويرى رشاد عبده (الخبير الاقتصادي) في حديث سابق له، أنه كلما زادت الدول فقرًا ارتفعت معدلات التدخين، فالمسألة تتعلق بمستوى الوعي والسلوك والتعليم. ويقول على سبيل المثال إن “الأسرة الفقيرة تنجب كثيرًا، والمواطن ينفث ضغوطه مع دخان السجائر، في حين أن الأغنياء لديهم الكثير من البدائل للتنفيس عن الضغوط”.
ويعيش نحو 30% من المصريين تحت خط الفقر، وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، في وقت تشهد فيه مصر تراجعًا في سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، وارتفاعا كبيرا في أسعار جميع السلع، الارتفاع الذي طال السجائر منذ العام الماضي أكثر من مرة.
ومع الوقت واستمرار تلك الأزمة، يـتأكد محمد جلال أن قراره صائبًا. لكنه يعترف أن الدافع لم يكن الحفاظ على صحته بقدر أنه دافعًا ماديًا بالدرجة الأولى، ويقول: “على عكس ما توقعت، اكتشفت أنها ليست شيئًا مهمًا في حياتي”.
في المقابل، لم ينكر عبد العليم أحمد أن السجائر باتت جزءًا أساسيًا في حياته، لا تقل أهمية عن الطعام أو الشراب، فلا يمكنه الابتعاد عنها حتى لو ارهقته أسعارها.
يشعل “عبد العليم” إحداها أثناء حديثه.. يشير إليها وقد غطى دخانها وجهه، ويقول: “هل تدركي ماذا تفعل بي هذه السيجارة؟.. فهي تجعلني أهدأ كثيرًا في لحظة!.. أعلم أننا نشتري الموت لكنه إدمان”. ثم يحكي عن اشتياقه لسيجارته المألوفة “كليوباترا”، فينتظر على أمل أن تنتهي تلك الأزمة ويهبط سعرها ليعود إليها.
أقرأ أيضًا:
أزمة السجائر.. احتكار تجار أم فرض للأمر الواقع من الشركة؟