جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
دشنت منصات السوشيال ميديا نفسها واحتلت مساحاتها رويدا وطوعا وخلال سنوات قلائل لتكون مجال لعموم البشر لسرد يوميات الحياة المعاصرة ودقائقها المتجددة لحظة – وإن شئت فمتو ثانية- تلو أخرى، لتكون وسيطا تعبيريا جماعيا غير مسبوق من حيث عدد مشاركيه ومعدلات القراءة والمشاهدة والتصفح، لتكون منصات حكى للأفراد فيما يخص شئون الحياة المختلفة التى تهمهم على مستويات مختلفة أو تستحق أن تكون مجالات نقاشهم من وجهة نظرهم، فتضم محتوى متعدد الأشكال لكل ما يجول بخاطرهم أو يشغلهم أو حتى مجرد يستمتعون به، كما صارت أيضا وبالتوازي ساحات محتدمة لإعلان المواقف فيما يخص الأزمات والحروب وغيرها الكثير مما يدخل فى مجال علاقات الدول وتداخل الثقافات أو صراعها، بل أنها أحيانا ما تكون تعبيرا عن مواقف غير معلنة أو لم يتم التعبير عنها رسميا، فتبادر المنصات وجمهورها وتبدأ وتشعل الأزمات متأججة كوكلاء غير رسميين للمجتمعات والدول وبديلا لمناوشاتها الرسمية التى يصعب علاجها بعد ذلك، وقد صار بإمكان الجمهور هنا أن يفعلها باحتراف واستغراق بل واستمتاع كبير.
تجمع المنصات بين الطبقات كافة والأعراق كافة فهل شهد العالم تسامحا وقبولا على هذا النحو؟!، فهى تمنح مجالا متساويا لكل المحافظين فكرا والشعبويين آداء والمترددين على مدرج المساحات بينهما، يتواجدون بمساواة وحقوق مرعية فى النشر، النخب من البشر وحرافيشهم من آحاد الناس، كما لا تمتنع مختلف الهيئات والمؤسسات الرسمية فى الدول الكبرى والنامية وممثلوها عن الإدلاء ببياناتهم والتعبير عن مواقفهم على ساحاتها تجاه ما يرونه مجالا للتعبير عنه أيضا ولتشارك حضورا فى عموم هذه السردية الكبرى فى التأريخ لأحوال البشر وتقلباتها فى مختلف بقاع خريطة جغرافيا الكون.
يتواجد كل هؤلاء طوال الوقت وفق توقيت الصحو والمنام وفورة النشاط الإنسانى أو أفوله، متتبعين أحيانا دورة النهار والليل فى كل موضع أو متجاوزينها، يبثون ويصورون ويكتبون وينقلون ما ينتقون فيشكل ذلك عبر الوقت سيرة مشاركات وتفاعلات كل منهم، حتى لا يحتاج معها إلى مزيد من توثيق مجمل لسيرة مواقفه فى الحياة، ولتشكل فى مجموعها روايتى الماضى والحاضر مجتمعتين، فهل حمل التاريخ الكونى أو حظى البشر بمنحة كهذه أبدا ؟!، حتى لتكاد تصير مثل تلك الوسائط الاجتماعية وما تتضمنه من تعبيرات هى أدلة الوجود وتأريخ للمكان والزمان وحركة البشر داخلهما كما لم تفعل من قبل الأسفار والحواديت والدواوين الكبيرة.
هذا التحول الذى ترسخ مع الوقت فرض -وكطبيعة كل جديد وكمنهج كل تطور- عدة إشكاليات بشأن مدى رسوخ وقيمة ودور معايير نشر الكتب والإنتاج الفنى والثقافى عامة والتى عاشت قرونا، وذلك فى مقابل ما يتم بثه وترويجه واستساغته قبولا من ملايين المشاهدات لنصوص ومقاطع الفيديو على اليوتيوب والتيك توك فضلا عن صور الانستجرام التى تضع إشكالية أخرى فى مواجهة كل تاريخ المصورين الاحترافيين، فضلا عن تدخلات الذكاء الصناعى فى إنتاج ذلك المحتوى وتيسيره على قارعة الطريق لمن شاء.
يصنع ذلك مع الوقت حالة اندياح كلية – بعد حدوثها جزئيا- للقواعد المؤسسية للكتابة الإبداعية والإنتاج الثقافى مقابل محددات النشر والإبداع كما ترسخه وتنمطه وتروجه أنماط الحكى والكتابة والسرد على المنصات، فالأخيرة تنمو وتتزاحم وتتكثف وتغرق الفرد حتى لتعوقه عن قراءة ما سواها إلا لمامًا، ثم الأهم أنها تشكل ذائقة تنمو مع الأجيال والنشء وتصنع معاييرهم بشأن تقدير ما يستحق القراءة والمشاهدة، مخاصمة أو تقاطعا تاريخيا مع المعايير المتعارف عليها قرونا وبما يجعل معظمها خارج منظومة تلقى الإبداع المستقرة و”التقليدية” وأيضا خارج كل القواعد النقدية المؤسسية الراسخة.
هي منظومة وعملية تبادلية تضخ فيها منصات التواصل نصوصا ومرئيات يومية، ويقبل عليها وينتقيها ويعلي من قيمتها جمهورها، فتشكل حيز الإبداع الجديد الذى يغذي نفسه بمعاييره ويفرضها عبر الوقت، فماذا سيتبقى من تعريف الإبداع وشروط الإنتاج الأدبي والفني والثقافي التي ظلت قرونا تتجدد جزئيا ضمن معايير عامة ضابطة.
يصنع البشر فى مسارات الحياة تيسيرات البقاء، أشياء تبدأ بسيطة وربما مفيدة، ثم تنفصل عنهم رويدا ليكونوا هم داخل دائرتها، هذا هو تاريخ الاعتياد وأسواره العالية، يبقى أنه لم يتم دراستها ثقافيا واجتماعيا، بمعنى دراسة أشكال الحياة وظواهرها كما تسردها برديات السوشيال ميديا عبر حوائط الفيس بوك والإنستجرام وتيك توك وتويتر وما سواهم، دراسة الحياة على تلك الوسائط لا تقل شأنا أبدا عن دراسة الواقع والأحداث، فتلك هي الصور الموازية التى ينتجها البشر على اختلاف ثقافاتهم وهي تعبير عفوي ومباشر ومتنوع، فريد تاريخيا فى تشكل وخصائص نسيجه.