جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
على تخوم أدب الرحلات، كتب القاص هشام شعبان المتتالية القصصية «الحب على ضفاف بحيرة السلاحف» (دار المسك، 2022).
وعبر 78 صفحة من القطع المتوسط، يُبحر بك هشام شعبان في تجربةٍ فريدة لا تخلو من إثارة ومفارقات.
تضم المتتالية 17 قصة قصيرة منها: الحب على ضفاف بحيرة السلاحف، رحلة النبيذ، الطبيب والحمار، دير فارديزا، الدعاء عن قبر القديس نينو، بائعة العسل، ذات التنورة القصيرة، وغيرها.
تدور أحداث المتتالية جميعها في جورجيا شرق أوروبا أواخر شتاء العام 2019، حيث نجد عددًا من المواقف التي عايشها البطل أو السارد في تلك الأماكن، وذلك عبر المزج بين الواقع والخيال في إطار سرد قصصي أقرب إلى أدب الرحلات.
لغة هشام شعبان الرشيقة أسعفته كي يبدد الملل والضجر عن قارئ يتابع عبر صفحات المتتالية القصصية تفاصيل رحلة غامضة ومدهشة في آنٍ معًا إلى جورجيا.
يقول البطل/السارد:
«غمر الضباب وجه البحيرة، ثم رويدًا رويدًا راح نور الفجر يزيحه بعيدًا فيضيء الأركان. وقفتُ متكئًا على سياجٍ حديدي وأنا أتدثر بمعطفٍ رمادي ثقيل، رُحتُ أستنشق النسيم العليل في ذلك الصباح الباكر، أسمع تنفس الطبيعة النائمة وأنا أمني النفس باستئجار منزلٍ صغير في تلك البقعة إلى الأبد» (ص 23).
ربما كانت قصة «كلب أسود في بركة ماء» من أكثر قصص المجموعة عمقًا وفلسفية؛ إذ نتابع قصة كلبٍ أسود يلقي بنفسه فجأة داخل بركة مياه صغيرة تتوسط مقاعد أحد المقاهي، مما يثير الكثير من ردود الفعل لدى الزبائن والمشرفة على المقهى.
نقرأ:
«سادت حالة من الهرج، فزع بعض الزبائن وراحوا ينقلون مقاعدهم وطاولاتهم بعيدًا؛ كي لا تطالهم حبات الماء التي ينفضها الكلب عن جسده فتتناثر يمينًا ويسارًا. هرول نفرٌ من العاملين بالمقهى لإبعاد اللب، حاولت امرأةٌ بضة –بدت وكأنها المشرفة على المكان- إخراج الكلب دون جدوى. ترددت في النزول إلى البركة وحمله بعيدًا، لكنها ما لبثت أن طردت الفكرة من رأسها، ثم أدارت وجهها نحو شابٍ نحيل ذي ملامح قوقازية ودعته بلغةٍ جورجية غاضبة لحل تلك المعضلة.
توزعت نظرات المرأة ما بين الكلب المنتشي داخل بركة الماء وبين الزبائن الذين راحوا ينسلون واحدًا تلو الآخر بحثًا عن مقهى آخر أقل ضجيجًا. اتسعت حدقتا عينيها حنقًا، فدفعت الشاب ذا الملامح القوقازية نحو البركة بقوة كادت أن تسقطه أرضَا» (ص 37-38).
بعد فشل المحاولة «واصل الكلب استعراضه حينًا من الزمن، حتى إذا ما تفرق جميع السائحين الذين التفوا حول البركة قبل مدة لالتقاط الصور، وتوقف العاملون عن مضايقته، أرخى جسده فحملته المياه كأنه ريشة تحملها الرياح. تحوّل عنفوانه إلى سكينة، وتبدّل نباح نشوته إلى صمتٍ مطبق، بعينٍ مزرورة راح يتطلعُ إلى الأفق، وحين التقت نظراتنا رأيتُ الدموع وهي تدق جدار عينيه ودون أن يُحدث جلبةً سبح خارجًا من البركة، وركض نحو مجموعةٍ من الكلاب تاركًا خلفه المقهى وكأن الأمطار أغرقته» (ص 39).
الحلم هو حيلة القاص كي ينتقل إلى عوالم أكثر رحابة واتساعًا؛ إذ يقول:
«شعرتُ بلكزة في كتفي، فإذا بي مُلقى على أريكةٍ داخل مقهى وأمامي البحيرة تضج بالسائحين!
رفعتُ رأسي فوجدتُ زوجتي وهي تصيح بدلال:
-هل هذا وقتُ النوم؟
قطّبتُ حاجبي ورددت:
-منذ متى وأنا نائم؟
قالت وقد أشفقت عليّ:
-منذ بضع دقائق ليس أكثر.. تناول قهوتك بسرعة وهيا لنستأجر أحد القوارب» (ص 14).
لا يفلتُ السارد من قبضة الجمال، ومن ذلك ما نطالعه في «بائعة العسل»، و«ذات التنورة القصيرة» و«حسناء صالون التجميل». في الأخيرة نقرأ:
«انطفأت أضواء صالون التجميل، وخرجت الحسناء وقد أزالت قلمًا لملمت به خصلات شعرها الناعم فبدا مسترسلًا فوق كتفيها، رأيتها تتدثر ببالطوأبيض ثقيل، وعاودني الفضول لما ستؤول إليه ليلتها» (ص 27-28).
وفي «ذات التنورة القصيرة» نطالع:
«فتاة شقراء ذات شعر ذهبي طويل، ترتدي تنورة قصيرة وتقود دراجتها على الرصيف، توقفتْ على مقربة مني عند حاجز إحدى الإشارات المرورية. في انتظارها تطلعتُ إليها بتركيز أكبر، بدتْ صارمة الملامح عكس ما توحي به ثيابها وشعرها المسترسل، تسمرتُ في مكاني وأنا أطالع عودَها الممشوق وأنفها الصغير وهسيس تنورتها القصيرة، بدتْ في حُسنها كتمثال كيوبيد» (ص 29).
يضيف:
«في طريق العودة، مررتُ من جديد بالتقاطع الذي جمعني بالفتاء الشقراء،تساءلتُ إن كنتُ محظوظًا كفاية كي أراها مجددًا؟»
أما في «بائعة العسل» فهو يصفها كالتالي:
«وقفتُ أمام جمالها مشدوهًا، لا أجد سبيلًا لجمع شتات نفسي أمام ضحكاتها العالية التي تكشف عن أسنانٍ بيضاء وعينين عسليتين. رحتُ أحدقُ في عينيها في صمت، ولساني حائر يتململ: هل تلونت عيناها بلون العسل الذي تبيعه؟ أم أن عسل عينيها هو الذي عبأ تلك الزجاجات جميعها؟» (ص 61).
بل إنها تختار له زجاجة عسل داكنة اللون تغوص في أعماقها حبات عين الجمل، ثم تقول له:
«لكل إنسانٍ نوعٌ واحد فقط من العسل يلائمه؛ أنا بائعة ولي نظرة، هذا العسل الداكن يلائم شخصيتك المركبة التي تبحث دومًا في الأعماق فيما وراء الظاهر» (63).
يُقدِّم شعبان من خلال المتتالية عددًا من القصص المتنوعة تتضمن توليفة من مشاعر الحب في أجواء الشتاء الأوروبي حيث الثلوج تغطي جبال القوقاز، كما نطالع في مجموعته مقاربة لواقع الحياة في تلك البلاد التي عاشت دهرًا بوصفها جزءًا من الاتحاد السوفييتي قبل أن تتجه نحو الانفتاح جهة الغرب وأميركا، وهو ما يظهر جليًا في قصة بعنوان «شارع جورج بوش».
ومن خلال قصص (الحب على ضفاف بحيرة السلاحف، رحلة النبيذ، الطبيب والحمار، دير فارديزا، الدعاء عن قبر القديس نينو، بائعة العسل، ذات التنورة القصيرة، وغيرها) يُعبِّر الكاتب عن مقاومته التغريب وانحيازه لاكتشاف الذات، كما ينقل بتعبيرات جمالية سحر المدن الجورجية مثل (تبليسي، سجناجي، باتومي، جوري، وغيرها) والتي يُشبِّه جمالها بالخمر الذي يُسكر شاربه.
من أجواء المتتالية:
«ارتعش قلبي كفرخ الحمام المبلول. احتسيتُ قهوتي على عجل، ثم أمسكتُ بخصرها وصعدنا إلى القارب. قبل أن نبلغ وجهتنا انزوت الشمسُ فجأة وتلبدت السماء بالغيوم، راحت ندفات الثلج تتساقط والقوم من حولنا يهرعون يمينًا ويسارًا لمغادرة البحيرة. أما أنا فرُحتُ أناجي السماء: لا يهم.. نار الحُبِّ أقوى من صقيع القطبين.. ثم خلعتُ معطفي وألقيته جانبًا» (ص 15-16).
هشام شعبان روائي وقاص وكاتب مسرحي، صدر له من قبل عدد من المؤلفات منها رواية «ثلاثة ورابعهم كلبهم» الحائزة على جائزة إحسان عبد القدوس، ورواية «الإفطار الأخير»، ومسرحية «أيامًا معدودات في الجنة»، وتُرجِمت بعض كتاباته للإنجليزية والإسبانية والإيطالية.