جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
من الصفات التي تُحمد للإنسان في كل زمان ومكان قدرته على الزهد والاستغناء والعيش بإشباع الحد الأدنى من الاحتياجات المادية والمعنوية لكي يتجنب أن يصبح أسيرًا لإنسان أو رغبة أو احتياج، ولكي لا يعاني بغيابهم مشاعر الحرمان والفقد والضعف.
وهذا الخيار الإنساني مفهوم ومقبول إذا كان ناتجًا عن وعي تام بالذات واحتياجاتها، ونابعًا من قوة حقيقية لا عن لحظة هشاشة وجودية يتم فيها خداع الذات والتدليس عليها بقناعات مُضللة عن الزهد والاستغناء هروبًا من المواجهة معها، وتصويب المسار والأخطاء في العلاقات وخيارات الحياة.
لكنه يصبح خيارًا خاطئ غير مفهوم ولا مقبول عندما يأتي في أقصى لحظات ضعف وفشل الإنسان وفقدانه للاتزان النفسي والعاطفي واحتياجه للاستقرار والاطمئنان وتأسيس بداية جديدة، وعوضًا عن السعي لتحقيق ذلك بالفعل يتولد لديه شعورًا زائفًا بالقوة والاستغناء والاكتفاء الذاتي.
وهذا الإنسان على العكس تمامًا من الزاهد الحقيقي والمستغني الواعي القوي والمسافر البصير في رحلة الحياة، إنسان لا يعرف ذاته ولا طريقه ولا هدفه ولا محطة وصوله، وهو يُقيم في سجن اختياري يضع فيه بينه وبين احتياجاته ألف سور، وينشغل بتحقيق انتصارات مهنية أو مالية متوهمة تُعيد الثقة إلى نفسه، وتُعيد كما يظن ثقة الآخرين به.
ثم تمر الحياة عليه وهو يمارس الهروب الدائم إلى الأمام، منتشيًا بزهده الزائف وقدرته على الاستغناء، وبخمرة نجاحاته الشكلية، لكنه يظل متصدعًا في الداخل، ومفتقدًا لشيء ما أو شخص ما في الخارج.
وحتمًا مع التقدم في العمر سوف يعود إليه من جديد شعور الاحتياج والضعف وعدم الاتزان القديم، وسوف يشعر بعدم الرضا عن ماضيه ورحلته واختياراته، مع العجز عن إصلاح الماضي بسبب عوامل الزمن وضعف الجسد والهمة.
ولهذا يحتاج الإنسان لبصيرة نافذة وشجاعة كبيرة تمكنه من استبطان ذاته واحتياجاته، ونقد ماضيه وخياراته، والاعتراف في الوقت المناسب بضعفه وأخطائه وحاجته للآخرين، والسعي لعيش حياة متوازنة على أصعدة متعددة، بدلًا من خداع ذاته وهروبه المستمر للأمام باستدعاء مشاعر قوة واستغناء زائفين، وبإشباع احتياجات غير ضرورية، وتحقيق نجاحات قد تبدو في نهاية الرحلة هامشية لا تغني روحًا ولا عقلًا، ولا تروي ولا تشبع جسدًا.