جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
عالمٌ خاص ومغلق على نفسه، يفتح أبوابه لعموم القراء عبر صفحات الكتاب الممتع «صاغة مصر.. النشأة وتطورها التاريخي» (دار المحرر، 2024) للكاتب وليد فاروق علي، حيث يتناول تاريخ صناعة الذهب في مصر مرورًا بالنشأة وتطورات هذه الصناعة، مع التركيز على الصاغة باعتبارهم صناع وبائعي المعدن الأصفر النفيس.
بأسلوبٍ سلس واستشهاد بمصادر ومراجع مهمة، يُقدِّم الكاتب على مدار صفحات الكتاب (330 صفحة) كمًا وافرًا من المعلومات حول الاستثمار في الذهب وحجم تجارته في مصر وتاريخ عائلاته وسر صنعته وظاهرة غشه وغيرها الكثير.
يتناول الكتاب صناعة الذهب خلال نحو 100 عام مضت، ويُقدِّم معلومات وافية حول تاريخ الدمغة في مصر، وتاريخ عائلات اليهود في صناعة الذهب (مسعودة، السرجانية، غالي، عباسي، الخرساني، آغا زادة، واصف إرساني، عليش، نصار، عبد الباقي البكري، الجلا، سليمة، بايوكي) ولغاتهم السرية، وأهم الحلي التي ارتدتها المرأة المصرية خلال القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.
ولعل من أهم فصول الكتاب هو الفصل الخامس، الذي يحمل عنوان «عائلات وجواهرجية مصر»، ويحكي فيه كيف ارتبطت صناعة الذهب في مصر بعائلات توارثت المهنة، وهلّمت فنونها وأسرارها لأبنائها على مدار عقود، امتدت جذور بعضها من أواخر القرن الثامن عشر، مثل عائلة السرجانية، وأخرى من بداية القرن التاسع عشر مثل عائلة شفيقة غالي وعائلة عباسي، وغيرهم من بداية القرن التاسع عشر، مثل عائلة الخرسانية، وعائلة آغا زادة، وعائلة عليش، وغيرها من التجار، والصواغ، وأصحاب المهن المُكملة لها.
يقول المؤلف في كتابه إن الفترة بين الحرب العالمية الأولى والثانية شهدت حركة ازدهار وتطور، نتيجة وجود الإيطاليين والأرمن الذين أثروا الصناعة المصرية بموهبتهم وفنونهم ومعهم انتشرت الورش الصغيرة، حتى قامت ثورة 1952، وتم إجلاء الأجانب عن مصر ليعودوا إلى بلادهم، فتركوا محالهم لتنتقل إلى المصريين العاملين بالورش، ومن بعدها تحولت الصناعة إلى عائلات، كل عائلة تورث الصنعة وفنونها وأسرارها لأبنائها. ارتكزت تجارة الذهب في منطقة الصاغة في مصر القديمة، التي تعد أشهر مركز في الشرق الأوسط لإنتاج وتجارة المجوهرات، وتستحوذ الصاغة حاليًا على نحو 70% من إجمالي تشغيل المجوهرات وإنتاجها في مصر (ص 97).
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت موجة من هجرة الأرمن إلى مصر، خلال حُكم الخديو إسماعيل، نتيجة الاضطهاد والإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها من الإمبراطورية العثمانية. وانتقل عددٌ كبير من الصياغ الأرمن المهرة والحرفيين إلى مصر، وبرزت عائلات أرمنية احتكرت المهنة مثل كيفوركيان وبندريان وموجيان، عريفيان، ما أدى لإحكام سيطرتهم على سوق الذهب في مصر لأكثر من 10 أعوام.
ويعد عاما 1912 و1913 من أكثر الأعوام تأثيرًا في تاريخ الصاغة؛ إذ شهدت حربًا من اليهود ضد الأرمن لمحاولة اليهود استعادة السيطرة على الصاغة مرة أخرى. تضمنت محاولة استعادة اليهود للسيطرة على الصاغة، ابتكار منتجات جديدة وإغراق السوق بالمصنوعات اليهودية، وتأسيس ورش وشركات وعلامات تجارية جديدة وإحكام السيطرة على خان أبو طاقية، فضلًا عن التقرب لأسرة عباس الثاني.
إلا أن الحرب بين اليهود والأرمن لم تستمر طويلًا، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1914، وإعلان بريطانيا حظر بيع الذهب داخل دول الحلفاء، ما جعل سوق الذهب المنفذ الوحيد لكثير من الجنود الموجودين على أرض مصر؛ إذ إنها لم تكن مشمولة بقرار الحظر، كما دخل اليهود مع الحكومة البريطانية في سباق لاكتناز ذهب المصريين وتحويله إلى سبائك (ص 102).
افتتح اليهود سوقًا جديدًا للذهب القشرة من خلال تحالف يجمع بين عائلتي داود الناسي وعائلة الخواجة ليتو مراد، فتأسست شركات جديدة من بينها علامة «الجمل» عام 1912، وتقع في 7 شارع خان أبو طاقية بمنطقة الصاغة في الحسين، كما أنشئت شركة «السمكة» عام 1913 في شارع الموسكي بالجمالية، وتأسست شركة «الظرافة» في عام 1918، وكانت الورشة في شارع المقاصيص بالصاغة وفروعها بالموسكي والعقادين في مصر، وفي سوق الخيط بالإسكندرية (د.علي زين العابدين، المصاغ الشعبي في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974).
استهدفت منتجات الذهب القشرة طبقات الشعب غير القادرة على شراء الذهب، خاصة أهل الريف والحضر، نظرًا لرخص ثمنها؛ إذ كانت تُصنع من النحاس وتُطلى بطبقة سميكة من الذهب، وكانت تضاهي في أشكالها وجودتها المشغولات الذهبية المتداولة في الأسواق، فكان يصنع منها الحلق المخرطة بأنواعه، والحلق الشفتيشي، والكردان والغوايش والخواتم (ص 103).
امتلكت كل من الشركات الثلاث مجموعة كبيرة من معارض البيع بالتجزئة، في جميع محافظات الجمهورية، بلغت 300 منفذ وتوكيل، كما ضمت كل منها صياغًا مهرة وحرفيين، وركز اليهود على طرح كميات كبيرة من المصاغ الشعبي من الذهب عيار 21.
أصبح اليهود هم التكتل الأكبر والأقوى في الصاغة المصرية، ونجحوا في إحكام سيطرتهم على سوق المصاغ الشعبي، ومصاغات الطبقة الوسطى، واحتكروا أكثر من ثلثي السوق، والثلث الأخير في يد المسلمين والأقباط والأرمن والنوبيين، ولكن سيطرتهم على السوق كانت قصيرة بفعل تنازع العائلات اليهودية مع بعضهم بعضًا للاستحواذ على السوق.
بعد قرار الحكومة المصرية بتأميم الشركات الثلاث عام 1961، وضمها في شركة واحدة سميت الشركة المصرية لتجارة المعادن «سيجال»، وهي إحدى شركات القطاع العام المصري، ثم تحولت بعد ذلك إلى شركة الوادي للمعادن والمصوغات، إحدى شركات المؤسسة المصرية العامة لتجارة الجملة، تعرّض المصنع لحالة من التدهور، نتيجة عدم التطوير، وتم إيقاف نشاط إنتاج الشركة في الصياغة وإنتاج الذهب القشرة، وتقع الشركة في 10 شارع شامبليون، وسط البلد – القاهرة (ص 103).
يبقى القول إن مؤلف الكتاب، وليد فاروق علي، يعد أحد أبرز الكُتَّاب الذين يركزون على الذهب والصاغة في مصر، حيث كان قد أصدر من قبل كتاب «أساور من ذهب: حكايات وأسرار سوق الذهب في مصر».