جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
فور وصولي وقبل أن أسكن بالفندق القريب من مسجد الرسول الكريم قررت أن ألحق بصلاة الظهر جماعة، كان قلبي يتلهف لتلك اللحظة الفارقة في حياتي..فهناك حديث عن النبي الكريم «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ». صليت في الساحة الممتدة والتي تنتمي لحرم المسجد الشريف. الشماسي الكبيرة المميزة للحرم النبوي – المرفوعة لأعلى والتي لا تشبه مكاناً آخر – تُظلل رؤوسنا من الشمس القوية، أرى من بين الفراغات عدداً من المآذن المتعددة – تبلغ عشرة – تبدو ساحرة آسرة بطولها وأطرافها تكاد تعانق السماء. صوت المؤذن يعلو مُعلناً الإقامة. في لحظة خامرني الشعور بعدم التصديق أنني أخيرا أقف في مسجد الرسول. كدت أجهش بالبكاء، كأنه كان حلماً بعيد المنال. في السنوات الآخيرة تمنيته كثيراً وحاولت التوفيق فيه دون جدوى، لكن، الله كان يحتفظ لي بما خير وأفضل، فقد أرادها لي في ظروف أجمل وأروع.
أتأمل كل الفرص التي فاتتني وتخيلت أنني خسرتها، وحزنت عليها فقط لحرماني من زيارة مكة والمدينة المنورة، بينما كانت إرادة الله أن أدخل إليهما وأنا متفرغة لهما تماماً، فأنهل من بهجتهما وأملأ نفسي وروحي من عطر المكان وأجوائه ليلاً ونهاراً، وأغسلني غسلاً جميلاً قلباً وروحاً. هناك تحررت من همومي، تخففت من الأثقال. أٌزيحت عن قلبي وكاهلي أعباء مُرهقة، كأني نزعت عني رداءاً سميكاً من الأعشاب والطحالب السوداء اللزجة. لم أعد أفكر في شيء سوى مواعيد بقائي في جنبات المسجد الطاهر الشريف، أحرص على أن أذهب باكراً لأجد مكاناً وسط الزحام الرهيب خصوصاً في تلك الأيام الكريمة من الشهر الحرام. هناك يتحول الإنسان إلى عابد يلهث بسعادة وبصدر منشرح حتى يلحق بالصلوات الخمس وقراءة القرآن، يحرص على النوافل والسنن، سواء المؤكدة أو غير المؤكدة، ثم ينال حظاً وفيراً من الثواب بعد كل فرض بالمشاركة في الصلاة على الأموات وأغلبهم في المدينة كانوا من الأطفال. فكما ذكر رسول الله – عليه أفضل صلاة وأتم تسليم – أن أجر الصلاة على الميت «يُعادل قيراط، والقيراط مِثلُ جبلِ أُحدٍ.»
أربعة أيام قضيتها في «طيبة الطيبة» مدينة الرسول، المحرم دخولها على غير المسلمين، وأول عاصمة في تاريخ الإسلام، وثاني أقدس الأماكن للمسلمين بعد مكة. ظللت أتنقل بين المواقع المختلفة للمسجد بين الداخل والخارج، بين المقدمة والجهات الخلفية، كأن المكان الشريف يفتح نفسه لي رويداً رويداً. رغم لفحات البرد القارسة فجراً، والحر الشديد نهاراً، وحظي من دور البرد والسعال المنهك لكني بقيت قادرة على أن أستمتع بالروحانيات وأرتوي بالطمأنينة، فالسلام طابع المكان، سيتعلق قلبك به وستظل تشتاق إليه دوما.
الروضة الشريفة.. لكل نصيب
كنت أطمع في زيارة الروضة الشريفة، والتي قال عنها الرسول الكريم (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ). ظللت أُحاول أن أحجز موعداً عبر تطبيق nusuk.. حيث يتم دخول النساء بعد العشاء من بوابة ٣٧.. كانت هناك أيام ومناسبات يفتحون تلك البوابة للنساء من دون موعد مسبق. لم يكن لي نصيب. مع ذلك وجدت بعض المواساة في شيء آخر. كان المنظمون يفتحون البوابة ٢٢ المخصصة للرجال بعد صلاة الفجر، حيث يُخرجون الرجال جميعاً وتصبح متاحة فقط للنساء حتى الحادية عشرة صباحاً، ومنها نعبر إلي الجزء القديم من المسجد النبوي الذي تعلوه القبة الخضراء، حيث يفصل بيننا وبين الروضة الشريفة ساتر جلدي مرتفع متين تم وضعه لمنع اقتحام المكان.
مع ذلك لمحت سيدة الآمن تقوم بإعادة تعليقه أو إصلاحه بعد أن تمزق هذا الساتر في أحد جوانبه أحياناً من شدة التدافع، ومن محاولات التعلق به لرؤية ما وراءه، فالنساء يأتين من كل فج عميق على أمل زيارة الروضة الشريفة والصلاة فيها والدعاء.
في اليوم الأول كان الزحام رهيباً بداخل المسجد، واضطررت للصلاة على البلاط بين الممرات، طمأنت نفسي بأنه في الفجر إن شاء الله سيكون المكان أكثر هدوءا وسوف أصلي ما أريد من النوافل، لكن المكان ازداد ازدحاماً، وبعض النساء وربما الرجال لديهم هوس بالصلاة داخل المسجد، دون التفكير فيما إذا كان هذا التدافع والتزاحم والإصرار على حشر أجسادهم أمام أو بين المصلين قد يؤذي الآخرين. في إحدى المرات جاءت اثنتين من النساء ووقفن أمامي مباشرة وأصبحن في منتصف المسافة بيني وبين الصف الذي أمامي، بحيث لا أستطيع السجود أو الركوع، وهن أيضاً. تحدثت مع السيدة، لفت نظرها لذلك وأوضحت أنها خارج الصف، هذا لا يجوز، إن أول شيء يلفت النظر إليه الإمام هو أن نساوي الصفوف.. لكن المرأة لم تستجب، فتركت لها المكان، حملت حقيبتي وسجادتي وخرجت إلي الساحة الخارجية للصلاة في هدوء دون مزاحمة متحصنة بالآية الكريمة تستقبلنا على الباب بكل اللغات: «اللهم افتح لي أبواب رحمتك».
شعور بالغبن، وغبطة الرجال
فإذا كانت الصلاة في المسجد النبوي والروضة الشريف أو حتى بالكعبة مستحبة، بل وأفضل أماكن للصلاة، لكن الله موجود في كل مكان بالمسجد وخارجه وقادر على أن يسمع مناجاتي، والرسول يستمع لمن يصلي عليه سواء في الروضة أو خارجها، فكما يقول الشيوخ: أن إيذاء الناس حرام.. فلا يجوز أن نرتكب الأمر المحرم من أجل أن نصل إلى أمر مستحب.
أعترف أنني كامرأة – في بعض اللحظات بالمدينة المنورة – كنت أشغر بالغبن، بأن للرجال حظاً أفضل منا، وأنهم مميزون علينا، كانت فرصهم أكثر وأيسر منا في زيارة الروضة الشريفة، رغم أن أعداد النساء كانت أكثر، وكانوا بالمسجد أحياناً يفتحون أماكن كانت مخصصة للرجال فيحولها للنساء من شدة التدافع والزخم. أيضاً، كان الرجال مسموح لهم بزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، كما زيارة قبور الصحابة في البقيع، بينما تٌحرم النساء من ذلك. ثم، أثناء مطاردتي لتطبيق نسك طوال الأيام الأربعة لم أجد لحظة واحدة تسمح لي بالزيارة.. فذهبت للشركة المسئولة عن التطبيق وهناك الموظفة قالت صراحة: «أن المسؤلين عن تنظيم زيارة الروضة الشريفة متشددون مع النساء»..
لكن، الحق أقول، أن تأمل سلوك كثير من النساء يحتاج إلى وقفة. بعضهن لا يلتزمن بالنظام، ولا بإرشادات نساء الأمن، فلا يتصرفن بإيثار، كما يستولي عليهن الطمع في الحصول على أكبر قدر ممكن من مياه زمزم رغم أنهن في بيت ربنا – وكذلك كان يفعل الرجال – فالتكالب على عبوات زمزم الضخمة أمر شائع ومتكرر – في مكة والمدينة – فالزوار والمعتمرون بعضهم لا يكتفون بالشرب أبداً إذ يُصرون على ملأ زجاجات عديدة، وبعضهن يفترشن الأرض وكأنهن استحوذوا على برميل المياه بينما هناك طابور يقف خلفهن وكأنهن تتسلحن بمبدأ: أنا ومن بعدي الطوفان». أين الإيثار، أين الرحمة، أين الوعي من مقولة الرسول الكريم: حب لأخيك ما تحب لنفسك؟ لابد من نشر التوعية بمخاطر تلك التصرفات، كما أنه صحيح أن ماء زمزم ماءاً طيبا مباركا فهو أفضل بكثير من الناحية الصحية من مياه الشرب العادية، لكن القليل منه عقب كل صلاة يكفي، ولنترك فرصة للآخرين. فإذا لم يُنهنا وجودنا في تلك الأماكن الشريفة المقدسة عن سلوكيات الزحمة، والطمع والجشع والرغبة في الاستحواذ دون التفكير فيمن حولنا فكيف نتوقع أن يتقبل الله منا صلواتنا ودعواتنا، وعمرتنا؟!
اعتراف أخير: في المدينة، جميع مَنْ تحدثت معهم – القادمون من مكة عقب العمرة – كانوا يحكون عن التدافع والزحام الشديد في مقابل السلام الذي وجدوه في المدينة المنورة، أثار هذا في قلبي قدراً من القلق، تأكد في اليوم الأول إذ وجدت العمدان والكتل الخراسانية والرافعات جراء التجديدات والتشييدات ترتفع من حول المسجد الحرام، لدرجة أنني شعرت في إحدى المرات أنني أصلي في أحد الأنفاق تحت الأرض فقد اضطررت للدخول من أحد الأبواب الجانبية.. لكن خلال الأيام الست التالية عندما حضرت أبكر للمسجد استطعت الدخول من الأبواب الأمامية إلي ساحة الكعبة والصلاة أمامها والطواف بها فامتلأ قلبي بالسكينة، وراح عني كل قلق وخوف، ورغم الزحام لكن الله يسهل كل شيء ويعين الإنسان، لدرجة أني صرت أشتاق لبقائي فيها ولقربي منها.
ختاماً، لا يفوتني أمر لافت وسط الزحام في مكة المكرمة، قدرة رجال ونساء الأمن على التنظيم، على تقسيم كافة أرجاء المسجد إلي مساحات مربعة أو مستطيلة مُسورة بحواجز، مع الإصرار على بدء الملء من الداخل إلي الخارج، وإن كان البعض لا يستجيب ويصر على أن يصلي بقرب الباب، أو أن يطل على الكعبة، فيعطل الطريق ويتسبب في الزحام، مع ذلك لا ييأس رجال الأمن من ضبط النظام باللين واللطف الحازم. وأثناء ذلك ورغم الزحام، يقوم عمال النظافة بدورهم يروحون ويجيئون بأدواتهم بين المصلين والمعتمرين، حتى حول الكعبة في ظل وجود اثنين مليون معتمر كانوا يمارسون دورهم.
الأمر الأخر المدهش لي شخصياً أن يتم فرز النساء والرجال قبل إقامة الصلاة مباشرة، ليصبح الرجال المعتمرون بملابس الإحرام البيضاء يحيطون بالكعبة مباشرة بكسوتها السوداء الجميلة ثم تتوالي صفوف النساء بكافة الألوان يغلب عليها الأسود والأبيض. الدهشة تأتي من أن عدداً غير قليل من المعتمرين يكون من الأُسر أو المجاميع، رجل وزوجته، أو ابن ووالدته، أو أب وعائلته، أو امرأة تستند على كرسي متحرك تدفعه أمامها مُصرة على أن تطوف سيراً على الأقدام بينما يُحيط بها أبنائها في قلق عليها، وجميعهم يكونوا بجوار بعضهم البعض ملتحمين أثناء الطواف، لكن قبل الإقامة للصلاة ببعض الوقت يمارس رجال الأمن عمليات الفصل بين الجنسين في عملية بدت لي مستحيلة، لكنهم أنجزوها بيُسر ومقدرة غير عادية في مشهد ساحر ظل يختتمه رجال الآمن في كل مرة بالوقوف إلي جوار المصلين بين يدي الله. وهنا لابد من الإشادة بالتوجه السياسي والقراقرارات الحكيمة المنفتحة التي يَسَّرت كثيراً من الأمور ومنها تأشيرة دخول المملكة، كما أن التوسعات الجديدة والامتدادات الشمالية التي يتم إجراؤها حالياً تقول بأن الحرم المكي سوف يسع أضعاف الحجاج والمعتمرين إن شاء الله.