جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
الفلسفة هي روح العصر وحوار العقول الكبيرة، وميراث الأسئلة والأفكار التي دارت بعقل الإنسان منذ وضع قدمه على الأرض وتطلع إلى السماء، وسأل نفسه: من أنا؟ ولماذا الآن هنا؟ وكيف أحيا؟ وإلى أين المصير؟
ثم بعد أن استقر في بيئته الطبيعة وسياقه الاجتماعي تساءل من جديد عن الحق والخير والجمال، وحاول تحديد معاييرها وكيفية تحقيقها، كما أخذ يفكر في المجتمع والدولة ونظام الحكم، وفي علاقة الإنسان بالإله والسلطة الزمنية، وعلاقة الإله والسلطة الزمنية بالبشر، وفي علاقة البشر فيما بينهم داخل المجتمع.
ومع تقدم الحياة الإنسانية والاجتماعية وتعقدها ازدادت الحاجة للفلسفة، خاصة في أزمنة المحنة التي تفقد فيها الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية قبول ورضا الشعب، وهي تظهر في ذلك التوقيت – كما قال الفيلسوف الألماني هيجل (1770 — 1831)- لكي تُصلح بالفكر الفساد الناتج عن تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية وصراعات رجال الدين.
ولهذا صار ظهور الفلسفة ضرورة في زمن المحنة لكي تمارس دورها التاريخي في النقد وكشف الزيف، كما قال الفيلسوف الألماني تيودور فون أدورنو (1903 – 1969).
والفلسفة هي “فن تكوين وصنع المفاهيم” كما قال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ( 1925 – 1995م )، بما تحمله هذه المفاهيم من مضامين ودلالات تترابط فيما بينها أو تتعارض، وهي آلية عقلية لتشريح وفهم وتفكيك الإشكاليات الملحة التي يفرضها الواقع على الإنسان.
ولهذا فإن خروج الفلسفة اليوم من أسوار الجامعة إلى فضاء الشارع والحياة عبر أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية وبوابات ومواقع الصحافة هو أمر حتمي من أجل نقد الفكر وإعادة صياغة مضامين ودلالات المفاهيم التي تتردد في المجال العام، ويتصارع حولها السياسيون والمثقفون والإعلاميون.
ومن المؤكد أن إعادة صياغة المفاهيم، وتحديد مضامينها ودلالاتها بدقة، سوف يكشف لنا وجود اختلاط مذهل لها في أذهان مستخدميها، خاصة مفاهيم مثل: الوطنية، والولاء، والانتماء، والخيانة، والإيمان، والكفر، والتدين، والنزاهة، والتجرد، والفساد، والأمانة، والفضيلة، والعهر، والوطن، والدولة، ونظام الحكم، والسلطة، والمواطنة، والصالح العام، ورجل الدولة، والمعارض السياسي، ورجل الدين، والإصلاح، والتجديد، والمفكر، والصحفي، والإعلامي، والكفاءة، والاستحقاق، والجدارة.
أما الإشكاليات الفكرية والسياسية التي تحتاج للفلسفة كآلية لتشريحها وفهمها وتفكيكها، فهي الإشكاليات التي أظهرتها متغيرات الواقع في العقود الأخيرة؛ مثل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وعلاقة رأس المال ورجال الأعمال بالسياسة والسلطة، وعلاقة مركز القوى السياسية والمالية في الداخل بمصالح قوى إقليمية ودولية في الخارج.
وكذلك علاقة المثقف والسلطة، وعلاقة أجهزة المجتمع والنخبة، وإشكالية الحضور الطاغي في المجتمع لأجهزة الإعلام والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، ودورها في تنوير الشعب أو تجهيله، وتشكيل الوعي أو تزييفه.
وفي النهاية، فإن الفلسفة التي ندرس من خلالها تاريخ الأفكار والمذاهب والتيارات الفكرية والدينية، والتي تحثنا على إعمال العقل ومناقشة كافة الآراء ووجهات النظر بعقلانية على قاعدة عدم وجود مُلاك يحتكرون الحقيقة المطلقة، هي وسيلة مهمة لنشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، وحتمية العيش المشترك في ظل الدولة المدنية الحديثة، وهي سلاح لا غنى عنه لمقاومة التعصب والكراهية وضيق عقل الأصوليين والمتزمتين الذين لا يخلو منهم أي مجتمع أو دين.