جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يبدو ملف الاقتصاد حديث الساعة في مصر وربما في العالم أجمع.
من هنا تأتي أهمية صدور كتاب يعالج قضايا المال والاقتصاد وتشابكها مع المجتمع والمؤسسات العامة والخاصة على حدٍ سواء. الكتاب الذي نتحدَّث عنه، يحمل عنوان “شبكات السلطة والمال: أسرار وكواليس تعارض المصالح” (دار ريشة، 2023) للصحفية والباحثة المتخصصة في شؤون الاقتصاد، ميرفانا ماهر، التي تبذل جهدًا كبيرًا في جمع مادتها وتبويب فصول كتابها لترتيب أوراق الاقتصاد المبعثرة عبر سنوات تمور بالأحداث والأزمات طوال نحو 15 عامًا مضت.
عبر صفحات كتابها (230 صفحة) يبدو اهتمام ميرفانا ماهر واضحًا بظاهرة تعارض المصالح، التي تعد حديثة نسبيًا، وتحتاج خصوصية في التعامل معها، نظرًا لكونها تستشري في دوائر وأوساط مختلفة.
في الكتاب الذي بين أيدينا، تستعرض ميرفانا ماهر أسرار وكواليس تعارض المصالح على مستوى الحكومة والبرلمان ورجال المال والأعمال، في قراءة متجددة وجريئة لخريطة شبكات السلطة والمال، وبلغة سلسة بعيدًا عن صعوبات الخطاب الاقتصادي المتعارف عليه، وفي سياق لا يخلو من سحر الحكايات.
توضح المؤلفة أنه لم يكن لدينا حتى عام 2013 تشريع لحظر التضارب بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية للمسؤولين وكبار الموظفين في الدولة. وكانت “المبادرة المصرية للوقاية من الفساد” قد انطلقت بعد ثلاثة أشهر فقط من ثورة 25 يناير، من خلال مجموعة من النشطاء السياسيين، بهدف وضع برنامج قومي، لإعداد مجموعة من القوانين والنظم، التي تحد من الفساد. كان على رأس المبادرة إعداد مشروع قانون تعارض المصالح، حيث كان د.زياد بهاء الدين، الأمين العام للمبادرة، قد أعد له مسودة له في وقتٍ سابق، لكن حكومة أحمد نظيف لم تهتم به. وسعى مشروع القانون المذكور إلى منع استغلال المناصب للمسؤولين الحكوميين في القطاعات المختلفة في الدولة، على أي نحو، ومراجعة نظام الإفصاح عن المصالح، خلال الوظيفة أو عند تركها.
في 13 نوفمبر 2013، بعد فترة قصيرة من تعيين عدلي منصور رئيسًا للبلاد، صدر القانون رقم 106 لسنة 2013 في شأن حظر تعارض مصالح المسؤولين في الدولة، والذي يخضع لأحكامه كل من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء، والمحافظين، وسكرتيري العموم، ورؤساء الوحدات المحلية، ورؤساء الهيئات والمؤسسات والمصالح والأجهزة العامة، ونواب ومساعدي الأشخاص السابق ذكرهم ومن يفوضونهم في بعض اختصاصاتهم (المادة الأولى من القانون المشار إليه). غير أن هذا القانون الذي طال انتظاره، والجيد من حيث المبدأ، انتهى الاهتمام به فور رحيل حكومة حازم الببلاوي التي صدر في عهدها القانون. لم يصدر قرار بتشكيل اللجنة التي نصت عليها المادة الرابعة من القانون، باسم لجنة الوقاية من الفساد، ويعهد إليها تطبيق أحكامه، في ظل غياب الإرادة في التعامل مع الظاهرة، حتى أن البعض رأى أن إصدار القانون كان عملية شكلية فقط.
واجه القانون مشكلة أن تطبيق أحكامه منوط بلجنة تسمى “لجنة الوقاية من الفساد”، وفاعلية هذه اللجنة على أرض الواقع بدت محل شك. وقد علَّمتنا التجارب أن التشريعات تقاس في أداء دورها بمدى تطبيقها من ناحية، وخضوع الجميع لها دون استثناء أو تفرقة من ناحية أخرى. ورغم مرور أعوام على صدور قانون حظر تعارض المصالح، فإن دور لجنة الوقاية في الفساد في إعمال أحكام هذا القانون لم يكن ملموسًا.
اكتفت الحكومة بإصدار قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، الذي أقر نظامًا جديدًا للتعيينات، يحقق الشفافية من خلال إعلان مركزي ومسابقة يعلن عنها، ومنع أيضًا عمل الموظف تحت الإشراف المباشر من أقاربه من الدرجة الأولى، في الوحدة نفسها.
وشهد عام 2019، إصدار المعهد القومي للإدارة، الذراع التدريبية لوزارة التخطيط، آخر نسخة من مدونة قواعد سلوك أخلاقيات الوظيفة العامة، والتي تحتوي على قواعد، لمنع تضارب المصالح لموظفي الدولة.
وتقر الحكومة نفسها في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لعام 2019-2022، بعد تفعيل قانون تعارض المصالح، وتضعه ضمن الإجراءات التنفيذية للهدف الرابع من الاستراتيجية، والخاص بتطوير البنية التشريعية الداعمة لمكافحة الفساد، حيث يتم ذلك إما من خلال إصدار اللائحة التنفيذية للقانون أو إلغائه ودمج محتواه بقانون آخر.
ويؤكد الهدف الاستراتيجي الثاني في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لعام 2023-2030 على أهمية وجود بيئة تشريعية وقضائية داعمة لمكافحة الفساد من خلال تحديث قانون حظر تعارض المصالح، وذلك من خلال إعداد مسودة القانون وإصدار قانون جديد له.
وفي يناير 2020، أصدرت الدائرة الأولى في هيئة مفوضي الدولة بمحكمة القضاء الإداري، تقريرًا قضائيًا في الدعوى رقم 27181 لسنة 70 قضائية المقامة من المحامي محمد حامد سالم، أوصت فيه بإصدار حُكم ملزم بتشكيل لجنة الوقاية من الفساد، وتحديد اختصاصاتها.
والهدف من ذلك هو وضع آلية لمنع أية سبل لقيام حالة من حالات الفساد، خاصة بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو. ووصف التقرير قانون تعارض المصالح بالقانون الموقوف بشكل شبه كامل والمعطل تعطيلًا كليًا على وجود تلك اللجنة التي يفترض أن تتولى مسؤولية استلام وحفظ صور من إقرارات الذمة المالية للمسؤولين الحكوميين المعينين وتحديثها سنويًا، وغيرها من المسؤوليات.
وعلى الرغم من أن القانون وحده ليس ضمانة كافية لتجنب تعارض المصالح، فإن وجود نصوصه الواضحة وتعريفه للظاهرة، وإلزامه للموظف العام بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالمهمة التي يقوم بها، وفرض عقوبات واضحة في حالة حدوث خلل، يمثل خطوة مهمة على طريق مكافحتها، ويعتبر أداة في أيدي المجتمع المدني، لإثارة قضايا قانونية ومجتمعية ضدها.
عبر فصول الكتاب المهم، يمكن أن نفهم الكثير حول مفهوم تعارض المصالح، وعلاقة المصطلح بعالم المال الأعمال والمؤسسات العامة والخاصة، إضافة إلى البرلمان، الأمر الذي يجعل من جهد ميرفانا ماهر إضافة لا غنى عنها للباحثين المهتمين بشؤون الاقتصاد وشجونه.