جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في 12 مارس من عام 1921 انطلق مؤتمر القاهرة، الذي دعا إليه وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية. لم يكن لمؤتمر آخر مثل هذا التأثير الحاسم على المنطقة؛ إذ انتهى المؤتمر –الذي استمر في حقيقة الأمر حتى 30 مارس 1921- إلى إنشاء دولتي العراق والأردن، والتأكيد على تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
في كتابه المعنون «القاهرة 1921: قصة الأيام العشرة التي شكَّلت الشرق الأوسط» (مدارات للأبحاث والنشر، 2024) يُبيّن سي. براد فوت، أستاذ التاريخ العالمي بجامعة تنديل الكندية، كيف أن هذا المؤتمر، على الرغم من سيطرة البريطانيين عليه، ومحدودية ما حظي به أهل البلاد محل التقسيم من مشاركة في مداولاته، كان محاولة طموحة، وإن لم تفلح في نهاية المطاف، لنقل الشرق الأوسط إلى عالم القومية الحديثة، في إطار الحفاظ على السِّمة الإمبراطورية للنظام العالمي. ويكشف الكتاب -الذي نقله إلى العربية أحمد العبدة- أن الكثير من المسؤولين، وفيهم توماس إدوارد لورنس -الذي يتحدّث عنه المؤلف بإعجاب مطولًا- وغيرترود بيل، كانوا مدفوعين بالإصرار على إنجاح تجربة بناء الدولة في المنطقة. وكان من شأن تحيزاتهم، وما استطاعوا تحقيقه، أن يغيّر الشرق الأوسط تغييرًا عميقًا لعقود تالية.
يُمثِّل مؤتمر القاهرة لحظة فاصلة في التاريخ السياسي الحديث، فقد دعا إليه وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل، في أعقاب مؤتمر السلام بباريس عام 1919، ونظيره الذي عُقد في عام 1920 في سان ريمو بإيطاليا، ومع إتاحة الأوراق الخاصة بالمشاركين في المؤتمر، خصوصًا أوراق تشرشل وأوراق غيرترود بيل للدراسة، رأى المؤرخ سي. برادفوت وجود فرصة للتغلغل عميقًا في مجريات المؤتمر ونتائجه، وهكذا سبر المؤلف المؤتمر سبرًا شاملًا حتى يفهم جزءًا من التاريخ الدبلوماسي لحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
عُقِد المؤتمر للنظر في المستقبل السياسي للبلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، خصوصًا العراق والأردن وفلسطين، ولمتابعة التوفيق بين تناقضات كانت تمر بها الإدارة البريطانية في سيطرتها على المشرق العربي، وهي التزام وعد بلفور، ومعاهدة سايكس- بيكو، والوفاء بوعودها للعرب عندما تحالفوا مع بريطانيا في الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.
لعل من النقاط التي تُحسَب لمؤلف كتاب مؤتمر القاهرة مسألة الاستفادة من الرسائل الشخصية لأبطال تلك المرحلة في فهم دوافعهم، وسرد انطباعات الأفراد عن الأحداث والسياسة في رسائلهم العائلية، ما يُضفي جوًّا من الذاتية، ويجعلك تقترب من فهم هؤلاء الأشخاص لأدوارهم، وحكمهم على تلك المراحل.
في الطريق إلى المؤتمر، غادر ونستون تشرشل لندن، ووصلت السفينة إلى الإسكندرية، وطلب تشرشل أن يذهب إلى خليج أبي قير، حيث يتذكر الهزيمة التي أوقعها الأدميرال نيلسون بأسطول نابليون في عام 1798، وهو الانتصار الذي أفضى إلى تغيير مساء النظام الثوري الفرنسي، وساعد على ترسيخ سيطرة بريطانيا على البحار. لم يكن حضور تشرشل إلى القاهرة محبوبًا حيث صاح متظاهرون مصريون غاضبون «يسقط تشرشل»، ورشقوا قطاره بالحجارة.
وصل تشرشل إلى فندق «سميراميس» الفخم على ضفاف النيل، وهو أحد الفنادق الفاخرة في القاهرة، وكان أقرب جيرانه دار المفوض السامي البريطاني وثكنة «قصر النيل» التابعة للجيش البريطاني.
وفي عام 1921 كان عدد سكان القاهرة نحو مليون نسمة، فكانت بذلك أكبر مدينة في إفريقيا، وكانت مصر قد حدثت فيها ثورة كبيرة قبل ذلك بعامين، عام 1919، ووصل إلى القاهرة لورنس العرب و«غيرترود بيل» و«بيرسي كوكس»، وكان الجمع الموجود من الموظفين البريطانيين يصل إلى 39 مشاركًا، وكتب لورنس رسالة إلى والدته يفخر فيها قائلًا: «كل مَن له علاقة بالشرق الأوسط موجود هنا»، وصفهم أحدهم بالـ«أربعين حراميًا»، ما أثار ضحك تشرشل على الفور.
وصل العميل البريطاني في أرض الصومال، السير جفري آرتشر، وقد خطف الأضواء لدى وصوله ومعه شِبْلان، وفي الكتاب قصة ملاحقة الشبلَيْن طيورًا في منزل المندوب السامي ألنبي.
في 12 مارس 1921، انعقد المؤتمر في فندق سميراميس في القاهرة وحضره جميع كبار الشخصيات العسكرية والمدنية من فلسطين وبلاد ما بين النهرين. كان العربيان الحاضران من أعضاء إدارة الانتداب لبلاد الرافدين.
افتتح تشرشل المؤتمر قائلًا: «أعتقد أننا سنستنتج بالإجماع أن فيصل يمنحنا الأمل في التوصل إلى أفضل حل وأرخص حل»، سيُعقد المؤتمر في مدة تزيد قليلًا على أسبوع ويعقد الخبراء ما يقرب من خمسين اجتماعًا.. ويضعنا كتاب مؤتمر القاهرة في كواليس الاجتماعات والحضور والنقاشات الاستعمارية، وقد حضر إلى المؤتمر من العرب جعفر العسكري، وكان وزير الدفاع في العراق، ووزير المالية يوسف حسقيل، وهو أحد يهود العراق، وقد سعدَتْ بهما بيل، لأنهما مثَّلا عناصر وطنية عراقية في مؤتمر يناقش مستقبل العراق.
كان ما يشغل بال تشرشل خفض نفقات وجود بريطانيا في الشرق الأوسط والعراق، وتحقيق درجة من الوطنية المحلية تُسهم في توحيد العراق، وتعمل على التوازن حتى تدور عجلة الإمبراطورية.
تألف جدول أعمال المؤتمر من ثلاثة أقسام: العراق وفلسطين (بما في ذلك شرق الأردن) وعدن والخليج العربي. كانت السلطة القضائية والمالية وحجم حامية الجيش البريطاني والمجلس التشريعي المقترح كلها على جدول الأعمال. التقى وفد عربي من فلسطين تشرشل في القاهرة لفترة وجيزة في 22 مارس، حيث رفض مناقشة أي شيء سياسي، لكنه وافق على مقابلتهما في القدس. تعقدت قضية شرق الأردن بوصول جيش الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمان، مع تدفق المتمردين واللاجئين من سوريا وحقيقة أن الصهاينة اعتبروا شرق الأردن جزءًا من الوطن اليهودي الموعود. عقد تشرشل سلسلة لقاءات مع الأمير عبد الله في القدس في طريق عودته إلى لندن.
يُبيّن كتاب «القاهرة 1921» أن فلسطين التاريخية قُسّمت مرتين؛ المرة الثانية المعروفة في عام 1947، أما المرة الأولى فكانت في مؤتمر القاهرة 1921، وقد نشأت إمارة شرق الأردن عن هذا التقسيم. وكان الهدف من هذا التقسيم الأول هو منح عرب فلسطين دولة في إطار محاولة تشرشل الموازنة بين وعد بريطانيا لحلفائها العرب (الشريف حسين وأسرته) بدولة عربية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ووعدها للصهاينة بدولة يهودية على أرض فلسطين (لا تمس مصالح بقية السكان)، ومسعاها التاريخي لتشكيل قاعدة غربية أمامية في الشرق. وقد رفض السير هربرت صموئيل، الصهيوني الجَلد، وأول مفوض بريطاني سامٍ على فلسطين، هذا المقترح أول الأمر (كان يريد فلسطين التاريخية كلها بما فيها شرق الأردن لليهود)، ولكنه كان سياسيًّا عقلانيًّا يعي أن تأييد بريطانيا لوطن يهودي على أرض فلسطين رهين تأييدها لشرق أردن عربي، فاستطاع تشرشل إقناعه بهذا المقترح في نهاية المطاف عن طريق تدخل حاسم من أحد مساعديه في وزارة المستعمرات، وهو توماس لورنس الشهير.
يروي الكتاب أنه لما احتدم الخلاف بين «أنصار العرب» وأنصار الصهاينة من مندوبي المؤتمر، وجُلّهم موظفون بريطانيون استعماريون «عرض لورنس وجهة نظره في أن دولة عربية بقيادة [الأمير] عبد الله [ابن الشريف حسين] قد تكون صمّام أمان في المنطقة؛ إذ يمكن الضغط على حاكم يعتمد مركزه على التأييد البريطاني لحمله على كبح جماح معاداة الصهيونية في شرق الأردن. وردّ صموئيل بأنه يخشى استمرار الغارات العربية عبر الحدود إلى داخل فلسطين. ولكن لورنس عقّب قائلًا: إن مسألة هذه الغارات يمكن حلها على أفضل وجه من خلال نظام حكم جيد في شرق الأردن. وأضاف أن إدارة الوضع قد تتم على نحو فعال لمصلحة الطرفين إذا أظهر عبد الله حسن التصرف».
كانت غيرترود بيل المرأة الوحيدة التي حضرت مؤتمر القاهرة 1921 الذي نظمه ونستون تشرشل لترتيب أمور الشرق الأوسط، ودعا إليه أهم الموظفين عن الملف في الإدارة البريطانية، كانت بيل ملمة بتعقيدات الشرق الأوسط، وفي ذلك الوقت كتبت تقريرًا مكونًا من 149 صفحة عن الإدارة المدنية في بلاد الرافدين. كان ونستون تشرشل يقول إنها الرجل الوحيد في مؤتمر القاهرة.
ببساطة، اجتمع تشرشل لمدة أسبوعين مع مساعديه ومندوبي الإمبراطورية البريطانية في القاهرة. ناقشوا، وقرّروا، وقسّموا المنطقة، ورسموا خريطة جديدة لها، ونصّبوا الملوك والأمراء، وشكلّوا الجيوش، كل ذلك بما يخدم مصلحتهم، قبل أن تتغيّر صورة المنطقة إلى الأبد.