جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
المرأة في المجتمعات الذكورية المغلقة هي “المرآة” التي تتجلى فيها كل أمراض المجتمع، وهي التي تعيش خراب العقول والنفوس والذمم، وتدفع ثمنه، وتصبح ضحية له.
وتزداد معاناة تلك المرأة عندما تجمع في ذاتها بين روح وشقاوة الطفلة وجمال جسد وملامح الأنثى؛ لأنها تصبح دائمًا متهمة ومطمع أشباه الرجال؛ فإن هي تصرفت على طبيعتها أدانوها وازدادوا طمعًا فيها. وإن هي رفضتهم اتهموها ونبذوها. وإن هي كبحت جماح روحها وحبها للحياة احترقت وتصدعت في داخلها واغتربت عن ذاتها ومحيطها، وعاشت في سجن مفتوح بلا قضبان.
وهذا في ظني ما صنع مأساة “مليكة”، إحدى أهم بطلات رواية “واحة الغروب” للراحل الأستاذ بهاء طاهر؛ فهي نموذج يُجسد أجمل وأشقى النساء في مجتمعنا؛ وهي كذلك لأنها امرأة ناضجة بروح طفلة، ولهذا هي جميلة، ولهذا هي تعاني في مجتمع قاسٍ لم يفهم أبداً روحها وشخصيتها وأحلامها وطبيعة إحساسها بالحياة والحرية.
يقول عنها خالها الشيخ يحيى كاشفًا عن بعض جوانب جمالها ومأساتها:
“عذبتِ أمَّك يا مليكة وعذبتْكِ؛ عذبتِها أولًا بجمالك الذي كسف كل جميلات الواحة.. ظلت خديجة في طفولتك تُلطخ وجهك بالهباب، وتلبسك أقذر الثياب، لكنك ظللت مع ذلك أجمل البنات. يتوقف الكبار في الطريق ليتطلعوا إلى ملامحك الفاتنة وهم يقولون: ما شاء الله! فتزيد أمك هلعًا عليك، وتحاول أن تسجنك في البيت لا تخرجين منه. لكنك ما إن كبرت قليلًا حتى تعلمت الهرب من البيت، تلبسين جلابيب الصبيان، وتخفين شعرك الناعم تحت طاقية، ثم تجولين في البلدة على راحتك”.
وبالفعل فشلت كل محاولات الأم خديجة في تقييد روح الطفلة مليكة وقتل حبها للحياة ومتعة اكتشاف العالم، ولهذا ظنت أنها ممسوسة بشيطان يجعلها متمردة دائمًا ومختلفة عن الجميع.
ويكشف هذا الحوار بين مليكة وخالها الشيخ يحيى مقدار جمالها وذكائها وإحساسها باختلافها الذي أرهقها وأرهق من حولها، وقد دار الحوار بينهما في حديقة للنباتات الطبية يملكها الخال يحيى الذي أورده على النحو التالي:
– تسألني مبتسمة وهي تقلب عينيها بين النباتات: وهل بينها دواء لي؟
– دواء لماذا يا مليكة؟
– دواء يشفي من الشيطنة.
– فابتسم: إلا دواءَك يا مليكة.
– ولكن أمي تقول: إن شيطاناً يركبني، ومعها حق: لماذا أنا غير البنات؟
– لم أقل لها إنها النعمة الوحيدة في البلد، وربما هي غلطتها الوحيدة، لا أدري.
وللأسف فقد كانت غلطة مليكة الوحيدة أنها “مختلفة”، وأنها لم تستطيع أن تكون على غير طبيعتها اتساقًا مع قيم ومعايير مجتمعها البالية، فلا الضرب صلح معها ولا الملاينة، لا وهي طفلة ولا وهي كبيرة، ولهذا وجدت أمها الحل في تزويجها قبل أن تبلغ الخامسة عشرة من الشيخ “معبد” العجوز الذي يصلح كجد لها.
بعد ذلك الزواج بفترة قصيرة تفر مليكة من بيت زوجها، وتعود إلى بيت أمها وتطلب الطلاق، وتصرّ على ذلك رغم تواطؤ الجميع لإعادتها إلى بيت زوجها اتساقاً مع قيم ولعبة التوازنات العائلية والقبلية في مجتمعها.
وقد أثار هذا السلوك جنون أمها، خاصة مع عودة مليكة لممارسة هوايتها القديمة في الهرب مرتدية زي الرجال والتجوال بين أطلال خرائب الواحة ومعابد ومدافن الملوك القديمة، واستخدام الطين والصلصال في تشكيل تماثيل لحيوانات وطيور تُشبه المرسومة على جدران خرائب الملوك.
ولهذا ظنت الأم من جديد أن مليكة مسكونة بالشياطين التي تجعلها مختلفة ومتمردة، وقررت أن تنهال عليها بقوة ضربًا بالعصى لتُؤدبها، وتخرج الشياطين من جسدها، لتموت مليكة فجأة بين يدي أمها.
وأظن أن موت “مليكة” في الرواية كان حلاً دراميًا ملائمًا لجميع الأطراف؛ لأنه أولًا قضى على اغتراب مليكة في جغرافيا الواحة القاسية والخانقة وحملها إلى “رضوان” حبيبها المُتوفى. ولأنه ثانيًا قضى على بوادر الفتنة والصراع بين عائلتها وعائلة زوجها. ولأنه أخيرًا أعاد النظام للواحة وثقافتها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، وضمن لها الاستقرار الهش الذي تعيش فيه.
ولكني أرى أن موت ملكية واتفاق جميع الأطراف على تجاوزه وطمس حقيقته وغلق ملفه لن يقدم إلا حلاً مؤقتاً للواحة وسكانها، لأن كل ملفات الواحة الإنسانية والاجتماعية سوف تظل مفتوحة، وسوف تطرح على الجميع المزيد من الأسئلة المُقلقة، وسوف تخلق مزيدًا من الضحايا من أصحاب العقول والأرواح والشخصيات المختلفة المميزة المحبة للحياة مثل مليكة.
ولهذا يتحتم على سكان الواحة أن يتوقفوا عن الهروب الدائم للإمام، وإدراك أن أصل الداء يكمن في منظومتهم القيمية والمجتمعية، وأنهم بحاجة لامتلاك شجاعة المواجهة والنقد والتفكيك والهدم وإعادة بناء مجتمعهم ليصبح أكثر إنسانية ورحابة وقبولاً للاختلاف.
وإن لم يتحقق ذلك سوف تظل الواحة وسكانها، وكل من هم على شاكلتها من مجتمعات تقليدية مسكونين لا شعورياً بغواية الغروب ونشوة الموت، ولن يكون لهم شروق إنساني أو حضاري حقيقي.