جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في كتابه «النول والمغزل: سوسيولوجيا المتخيَّل السردي» (دار المحرر، 2023)، يدرس أستاذ النقد د.شريف حتيتة الصافي ثماني روايات يفترض فيها التشابه من حيث تأسيس وجهات نظرها على تصور البنى الاجتماعية وتمثيلها بطريقة أكثر شمولًا. ففعل الغزل وأداته المغزل في يد الحائك يصبح معادلًا لفعل الكتابة السردية، ولكن في ضوء المساحة الممكنة للغزل فإنه محكوم بحدود النول الذي يغزل عليه. يحدث، وبهذه الطريقة يشبه الالتزام بحدود الموضوع الاجتماعي للكتابة.
تعد هذه الروايات عينةً رُوعيَ انتماؤها إلى مناطق جغرافية مختلفة من الوطن العربي، مثل المغرب ومصر والسودان والشام والخليج واليمن عند اختيارها. الأعمال محل الدراسة هي: «طعم أسود رائحة سوداء»، للكاتب اليمني علي المقري (2008)، «الجنقو مسامير الأرض»، للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن (2009)، «ترمي بشرر»، للكاتب السعودي عبده خال (2010)، «سيدات القمر»، للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي (2010)، «ساق البامبو»، للكاتب الكويتي سعود السنعوسي (2012)، «الطلياني»، للكاتب التونسي شكري المبخوت (2014)، «بريد الليل»، للكاتبة اللبنانية هدى بركات (2018)، «سيدة الزمالك» للكاتب المصري أشرف العشماوي (2018).
يوضح الباحث أن حضور الآخر شكَّل بينةً مركزية في رواية «ساق البامبو» للكويتي سعود السنعوسي، التي يقوم متخيّلها السردي على تمثيل المجتمع الكويتي. وكان «سؤال الآخر» على رأس الأسئلة التي اختلفت الرواية في إثارته عن غيرها من النصوص السردية التي تناولت موضوع الهوية في نطاق علاقات التقاطب والتراتبية، ولكنها تناولت الآخر من منظور ما يمكن تسميته «الضيافة الاجتماعية» بوصفها حلًا بديلًا لاستيعاب الآخر؛ سواء أكانت هذه الضيافة قائمة أم كانت مدعوًا إليها،فضلًا عن تصوير ممكنات إقامة مجتمع الضيافة الآمن وشروطه.
ولأن تخييل التحولات الاجتماعية على رأس مهام الرواية، فإنه يشير إلى روايات ثلاث، استحوذ التحول على متخيلها السردي، أو بتعبير آخر إن منظورًا روائيًا للتحولات الاجتماعية كان وراء هذا التخييل.
الرواية الأولى هي: «ترمي بشرر» للسعودي عبده خال، التي تُصوّر حالة التحول الحاد في منظومة القيم في المجتمع الخليجي. وهي واحدة من الروايات التي حققت حضورًا كبيرًا في العالم العربي ونالت جائزة «بوكر » العربية عام 2010.
والروايتان الأخريان هما: «الطلياني» للتونسي شكري المبخوت التي تجسِّد التحول الاجتماعي المرتبط بالمتغيرات السياسية في المجتمع التونسي، و«سيدة الزمالك» للمصري أشرف العشماوي التي تقدم التحوّل الشامل في مصر المرتبط أيضًا بتحوّل النظام السياسي عن الملكية، الذي أحلَّ طبقة محل أخرى.
يقول المؤلف إن رواية «بريد الليل» للبنانية هدى بركات تعد نموذجًا متفردًا ببنيتها الشكلية المتشظية، في تخييل المجتمعات الطاردة والمتقاطعة، وتصوير الشتات الإنساني، والبحث عن الإنسان في عوالم ليس للإنسانية فيها حظ.
يبدو المرجع الاجتماعي في هذه الرواية مغايرًا تمامًا، فهو لا يحيل إلى واقع ذي معالم واضحة، أو إطار محدد، وإنما يحيل إلى الواقع الذي يمكن أن نستدعي له تسمية يمنى العيد: «الواقع المرجعي المدمَّر»؛ فهي تصوِّر مجموعةمن الشخصيات المهاجرة التي لا هوية لها وفقًا للعلامات المحددة للهوية، ولكنها بالتأكيد شخصيات عربية. فقدت شخصيات الرواية أوطانها، وحاولت البحث عن أوطان بديلة، لكن كل الأبواب أغلقت في وجهها، فظلت عالقة لم تستقر في المكان الجديد ولم تستطع العودة، ومن ثم تبقى الغربة داءها الذي لا يبرأ إلا بالكتابة للجذور: الأم والأب والأخ والحبيب والحبيبة، مع الأمل بالنجاة من المصير المأساوي المنتظر.
كانت الرسائل البريدية الوسيلة الوحيدة لتجاوز هذه الوحدة، ووصل ما انقطع من جغرافيا المكان.
في المقابل، تُقدِّم رواية «سيدات القمر» للعمانبة جوخة الحارثي متخيلًا سرديًا اجتماعيًا خاصًا، تأتي خصوصيته من تأريخه الاجتماعي لحقبة ممتدة لأكثر من جيل من أجيال سلطنة عُمان؛فالرواية أشبه بروايات الأجيال، ولكن على نحو مختصِر للتفاصيل، فالجيل الأول تنتمي إليه «سالمة» و«التاجر سليمان» و«ظريفة»، والذي يليه جيل أبنائهم: «ميا وخولة وأسماء وعبد الله ابن التاجر سليمان، وسنجر ابن ظريفة»، ثم جيل لندن: ابنة ميا وعبد الله، وصولًا إلى «سالم» ابن «لندن».
وقد مكّن هذا اللعب بالزمن الكاتبة من قدرتها على تشييد هذا المتخيّل السردي الممتد على مساحة زمنية طويلة تصل إلى قرن ونصف القرن.
ويشرح د.شريف حتيتة الصافي كيف أن تخييل الهامش سرديًا يعد إحدى المهام التي انشغل بها الكُتَّاب العرب بدوافع كثيرة؛ منها أن ذلك يمكن أن يكون صورة من صور المقاومة والرفض لأوضاع اجتماعية غير سليمة ينبغي تغييرها، ولإبراز خصوصيات اجتماعية وعرقية في بعض الجماعات.
على هذا النحو، يأتي متخيّل روايتي «طعم أسود.. رائحة سوداء» للكاتب اليمني على المقري و«الجنقو مسامير الأرض»، للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن، وتُقدِّم الروايتان المهمش بوصفه (الجماعة البشرية المتجانسة) عبر متخيّل سردي يمثل التهميش مجموع أجزائه المكونة له؛ فالرواية الأولى تمثل مجتمع ما يُعرف بـ«الأخدام» في اليمن؛ وهم اليمنيون السود من أصل إفريقي، ويعيشون في إقصاء عن مركز المجتمع، ويعملون في الأعمال المتدنية، مع أن السلطة اليمنية في فترة الرواية حاولت دمجهم، ولمن هذه المحاولة قوبلت بتعقيدات تعود في أكثرها إلى طبيعة التكوين الثقافي لمجتمع الأخدام الذي قاوم الدمج.
أما الرواية الأخرى؛ فيقدم متخيّلها السردي المهمشين في منطقة شرق السودان في ولاية القضارف، الذين يعيشون على الحافة، ويكوِّنون ما يشبه المجتمع الموازي، فيعملون في الأعمال الشاقة، وخصوصًا في الأعمال الزراعية الموسمية. ويكشف متخيّلها عن جوانب خاصة جدًا حول طبيعة التكوين الاجتماعي للجنقو في علاقتهم بعضهم ببعض، وفي علاقتهم بالمركز السوداني، وفي علاقتهم بالآخر من الحبشيين والإريتريين والأعراق الإفريقية المتنوعة.
تأتي هذه الدراسة من منطلق الاعتقاد بأن الرهان الاجتماعي الذي تواجهه الرواية هو رهان جوهري لا يمكن التغلب عليه، وهو رهان لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع رهاناتها الأخرى المتعلقة بتطوير اللعبة السردية والرواية. القالب الفني، وهو مجال التجريب الفني. ولم تنته بعد من حسم الصيغة النهائية لعلاقات الفرد مع الآخر داخل المجتمع نفسه وموقفه من التقاليد والحداثة والسلطة وغيرها من العلاقات والمفاهيم التي ما زالت في دائرة الحيرة.