بغداد – (بي بي سي)
بعد تحقيق نشرته بي بي سي، أُلقي القبض في العراق على واحد من أكبر المتهمين بتهريب البشر إلى أوروبا.
وقال مسؤول حكومي رفيع المستوى في كردستان العراق، إن برزان مجيد ألقي القبض عليه في الإقليم صباح يوم الأحد.
وعلى مدى سنوات، ظل مجيد وعصابته متورطين بقوة في تهريب بشر -باستخدام قوارب وشاحنات- عبر القنال الإنجليزي.
وتتبعت بي بي سي أثر مجيد -المعروف كذلك باسم العقرب- حتى مدينة السليمانية، حيث قال إنه قد نقل آلاف المهاجرين عبر القنال الإنجليزي “ربما ألف، ربما عشرة آلاف. لا أدري، فلم أحصهم عددا”.
وقال عضو بارز في حكومة إقليم كردستان إن الجهات المعنية استعانت بتحقيق بي بي سي في تحديد مكان مجيد.
وأضاف المسؤول: “أُلقي القبض عليه في السابعة صباحا لحظة خروجه من منزله، دون أن يصاحب ذلك أي صعوبات”.
وأكدت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في المملكة المتحدة عملية إلقاء القبض على مجيد.
وقالت الوكالة في بيان لها: “مدينون لبي بي سي بتسليط الضوء على قضيته، ولا نزال عازمين على ألا ندخر جهدا في سبيل تعطيل وتفكيك الشبكات الإجرامية المتورطة في تهريب البشر إلى المملكة المتحدة، من حيث يعملون”.
ورحبت المدعية العامة في بلجيكا آن لوكوياك بخبر إلقاء القبض على مجيد، قائلة: “أخيرا سنحت لنا فرصة مشاهدة العدالة تتحقق في هذه القضية، إذ سيواجه (مجيد) بشكل مباشر جرائمه ويدافع عن نفسه”.
“مهمة مستحيلة”
وكانت بي بي سي تمكنت مؤخرا من إجراء مقابلة مع مجيد، جاءت تتويجاً لما بدا وكأنها مهمة مستحيلة قبل بضعة أشهر.
وبالتعاون مع روب لوري، وهو جندي سابق يعمل مع اللاجئين، بدأت رحلة البحث عن الرجل المعروف باسم “العقرب” وإجراء مقابلة معه.
ويحصل المهربون على حوالي ستة آلاف جنيه إسترليني مقابل تهريب الشخص الواحد على متن أحد القوارب، وفي ظل محاولة ما يقرب من 30 ألف شخص القيام بذلك في 2023، يبدو من الواضح جداً أن هناك فرصة كبيرة لتحقيق ربح هائل.
وبدأ اهتمامنا “بالعقرب” عندما التقينا فتاة صغيرة في أحد مخيمات المهاجرين بالقرب من كاليه في شمال فرنسا.
وكادت هذه الطفلة أن تموت أثناء محاولتها عبور القنال الإنجليزي في زورق مطاطي.
ولم يكن ذلك الزورق صالحا للإبحار، إذ تم شراؤه مستعملاً بثمن زهيد في بلجيكا، كما لم يكن الأشخاص التسعة عشر الموجودون على متنه يرتدون سترات نجاة.
فمن ذا الذي يدفع بالناس إلى البحر بهذه الطريقة؟
وعندما تنتشل الشرطة في المملكة المتحدة المهاجرين غير الشرعيين، تأخذ السلطات هواتفهم الجوالة وتفتشها.
ومنذ عام 2016، ثمة رقم هاتف واحد مستمر في الظهور على شاشات تلك الهواتف.
وأخبرنا مارتن كلارك، أحد كبار المحققين في الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في المملكة المتحدة، بأن الضباط بدأوا يدركون أن كلمة “العقرب” تشير إلى رجل عراقي كردي يُدعى برزان مجيد.
وعندما كان في العشرين من عمره سنة 2006، هُرّب مجيد نفسه إلى إنجلترا في الصندوق الخلفي لشاحنة. ورغم عدم حصوله على الإذن بالبقاء في البلاد بعد سنة من تهريبه، ظل لعدة سنوات في المملكة المتحدة – قضى بعضها في السجن بتهمة ارتكاب جرائم تتعلق بالأسلحة والمخدرات.
لكنه في نهاية الأمر رُحّل إلى العراق في 2015، وبعد فترة وجيزة، يُرجح أنه “ورث” أعمال تهريب البشر من شقيقه الأكبر الذي كان يقضي عقوبة السجن في بلجيكا.
وبمرور الوقت، عُرف برزان مجيد باسم حركي وهو “العقرب”.
وفي الفترة من 2016 إلى2021، سيطرت عصابة “العقرب” على أغلب أنشطة تهريب البشر بين دول أوروبا والمملكة المتحدة.
وأسفرت عملية للشرطة الدولية استمرت زهاء عامين عن إدانة 26 عضواً في هذه العصابة في محاكم في المملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا.
وحُكم على مجيد غيابياً أمام محكمة بلجيكية وأدين بـ 121 تهمة تتعلق بتهريب البشر. وفي أكتوبر/تشرين الأول سنة 2022، حُكم عليه بالسجن لعشر سنوات وغرامة قدرها 968 ألف يورو.
ومنذ ذلك الحين، ظل مكان “العقرب” غير معروف. وكان هذا هو اللغز الذي سعينا لحله من خلال هذا التقرير.
وعن طريق أحد معارف روب، وصلنا إلى رجل إيراني قال إنه تعامل مع “العقرب” عندما كان يحاول عبور القنال الإنجليزي. وكان مجيد قد أخبر ذلك الإيراني أنه يقيم في تركيا، حيث ينسق أعماله عن بُعد.
وفي بلجيكا، تعقّبنا شقيق مجيد الأكبر، وهو الآن خارج السجن، والذي رجح هو أيضاً أن يكون مجيد في تركيا.
وتعد تركيا نقطة انطلاق مهمة بالنسبة لمعظم المهاجرين المتجهين إلى المملكة المتحدة. ونظرًا لقوانين الهجرة الخاصة بها، فمن السهل نسبياً الحصول على تأشيرة لدخول البلاد من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.
وقادتنا معلومة إلى مقهى في إسطنبول يرتاده مهربو البشر، حيث قيل إن برزان مجيد شوهد هناك في الفترة الأخيرة.
لكن التحقق الأولي من تلك المعلومة لم يسر على ما يرام. وسألنا مدير المقهى عما إذا كان بإمكانه أن يحدثنا عن هذا النوع من التجارة – فهدأ المقهى.
وبعد قليل، مر رجل من أمام طاولتنا وفتح سترته ليُظهر لنا أنه يحمل سلاحا نارياً. وكان ذلك تذكيراً بأننا نتعامل مع أشخاص خطرين.
رغم ذلك، أسفرت محطتنا التالية عن نتائج واعدة أكثر؛ فقد وصلتنا معلومة تفيد أن مجيد قد أودع في الفترة الأخيرة مبلغ 200 ألف يورو لدى إحدى شركات الصرافة على بعد بضعة شوارع. فذهبنا إلى هناك وتركنا رقم هاتف، وتلقى رون مكالمة على هاتفه في منتصف الليلة التالية.
أشار معرف الاتصال أثناء المكالمة إلى أن “الرقم محجوب”، وكان هناك شخص على الجانب الآخر يزعم أنه مجيد.
كان الوقت متأخراً جداً وكان الاتصال غير متوقع على الإطلاق. كما لم يكن هناك وقت لتسجيل بداية المكالمة. ويتذكر روب الصوت الذي جاء على الطرف الآخر من الخط، والذي قال: “سمعت أنك تبحث عني”. فقلت له: “من أنت؟ العقرب؟” فرد: “ها، هل تريد أن تناديني بهذا الاسم؟ حسناً”.
لم تكن هناك طريقة للتأكد من أن من كان يحدثنا هو برزان مجيد بالفعل، لكن التفاصيل التي قدمها لنا كانت تتفق مع كل ما لدينا من معلومات عنه. وقال إنه كان يعيش في نوتنغهام حتى عام 2015 عندما رُحّل إلى العراق، لكنه نفى تورطه في تجارة تهريب البشر.
وفي أثناء حديثنا، احتج قائلا: “هذا ليس صحيحا، إنها وسائل الإعلام فقط”، في إشارة إلى تورطه في هذه الأنشطة غير الشرعية.
واستمر الخط في الانقطاع. وعلى الرغم من الطريقة المهذبة التي طرحنا بها الأسئلة، لم يقل أي شيء يمكن أن نستدل منه على مكانه.
كان ما سمعناه عنه مزعجا. فقد كان ما يصل إلى 100 رجل وامرأة وطفل يُحشرون على متن يخت مرخص له بحمل حوالي 12 شخصاً فقط.
وغالباً ما يقود تلك اليخوت مهربون ليس لديهم خبرة في الإبحار، كما يسلكون طريقاً خطيراً بين مجموعات من الجزر الصغيرة لتجنب دوريات خفر السواحل.
كانت هناك أموال طائلة ينبغي الحصول عليها. وأفادت معلومات أن كل راكب كان يدفع حوالي عشرة آلاف يورو ليحصل على مكان على متن أحد هذه اليخوت على مدار السنوات العشر الماضية، ويُرجح أن أكثر من 720 ألف شخص حاولوا عبور شرق المتوسط إلى أوروبا، من بينهم 2500 شخص لقوا حتفهم – غرقاً في أغلب الأحيان – أثناء تلك الرحلات.
وأكدت جوليا شافيرماير، من مؤسسة “SOS Mediterranean” الخيرية، أن المتاجرين يعرضون حياة الناس لخطر كبير، قائلة: “لا أعتقد أن هناك أي فرق بالنسبة لهم سواء عاش هؤلاء الناس أو ماتوا”.
كنا على وشك أن نطرح هذا السؤال على العقرب مباشرة هذه المرة، وقد فاجأنا باتصاله مرة أخرى.
ونفى مرة أخرى كونه مهربا. ومع ذلك، بدا لنا أنه يقصد بالإنكار تعريفه للمهرب بأنه هو من ينفذ عملية التهريب بنفسه، وليس الشخص الذي يحرّك الخيوط التي تؤدي إلى إتمام المهمة.
وقال لنا: “يجب أن تكون هناك (حتى تكون مهرباً)، وحتى الآن لم أكن هناك من قبل”.
وأضاف أنه “مسؤول المال فحسب”.
كما أظهر تعاطفاً واضحاً مع من غرق من المهاجرين أثناء رحلات تهريب البشر.
وقال: “تموت عندما يكتب الله لك ذلك، لكن في بعض الأحيان يكون ذلك بسبب أخطائك. فالله لا يقول أبدا: اصعد إلى القارب”.
كانت محطتنا التالية هي منتجع مارماريس، حيث رجحت الشرطة التركية أن “العقرب” يمتلك فيلا هناك. وسألنا عن حقيقة ذلك، وتلقينا مكالمة من امرأة قالت إنه كان ودوداً معها.
وأكدت أنها كانت على علم بأن “مجيد” متورط في تهريب البشر، وأن ذلك كان يضعه تحت ضغط وتوتر بسبب القلق على المال، لا على مصير المهاجرين.
وأضافت: “لم يكن يكترث بما يمكن أن يحدث لهم – وهذا محزن حقاً، أليس كذلك؟”، مؤكدة أن هذا الأمر كان يشغل بالها علاوة على الشعور بالخجل لأنها “سمعت عن بعض الممارسات التي لم تكن جيدة على الإطلاق”.
وأضافت أنها لم تره في فيلته في مارماريس في الآونة الأخيرة، على الرغم من أن أحدهم أخبرها أنه قد يكون في العراق.
وأكد هذه المعلومة شخص آخر قال إنه رأى “العقرب” في شركة صرافة في مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق.
وبالفعل انطلقنا إلى حيث قالوا. ولم نتمكن من العثورعلى العقرب هناك، وقررنا الاستسلام.
لكن أحد معارف روب تمكن من الاتصال به. في البداية، كان الشك يملؤه، وكان قلقاً لظنه أننا كنا نخطط لاختطافه بطريقة ما وإعادته إلى أوروبا.
بدأ مسلسل من الرسائل النصية بعد ذلك، وفي البداية، كنا نتبادل تلك الرسائل عبر الشخص الذي يعرفه روب ثم عبر روب نفسه. وقال العقرب إنه قد يقابلنا، لكن في حالة واحدة فقط؛ هي أن يختار المكان. لكننا استبعدنا ذلك خشية أن يكون مخططا للإيقاع بنا.
ثم وصلتنا رسالة نصية بها سؤال بسيط: “أين أنتم؟”
قلنا له أننا في طريقنا إلى مركز تجاري قريب. فطلب منا العقرب أن نلتقي به هناك في مقهى بالطابق الأرضي.
وأخيراً رأيناه.
بدا برزان مجيد وكأنه لاعب غولف ثري؛ فقد كان يرتدي ملابس أنيقة: سروالا جديدا من الجينز وقميصا أزرق فاتحا وسترة سوداء.
وعندما وضع يديه على الطاولة، رأيت أظافره مقلمة أيضاً.
في هذه الأثناء، جلس ثلاثة رجال على طاولة قريبة نرجح أنهم فريقه الأمني.
ونفى مرة أخرى أنه العقل المدبر الذي يدير منظمة إجرامية. وقال إن أعضاء العصابة الآخرين حاولوا توريطه.
كما بدا عليه الشعور بالمرارة عندما قال لنا أن مهربين آخرين حصلوا على جوازات سفر بريطانية وواصلوا تجارتهم.
وقال العقرب: “في ثلاثة أيام فقط، هرّب شخص واحد مابين 170 إلى 180 شخصاً من تركيا إلى إيطاليا، ولا يزال يحمل جواز سفر بريطاني!”.
وأضاف: “أريد أن أذهب إلى بلد آخر حتى أعمل، لكني لا أستطيع”.
وعندما ضغطنا عليه بشأن مسؤوليته عن وفيات المهاجرين، كرر ما قاله عبر الهاتف؛ وهو أنه أخذ المال وحجز الأماكن فقط.
وبالنسبة له، المهرب هو ذلك الشخص الذي يحمل الأشخاص على القوارب والشاحنات وينقلهم بنفسه: “لم أضع أحداً في قارب ولم أقتل أحداً أبدا”.
وانتهت هذه المحادثة، لكن “العقرب” دعا روب لرؤية شركة الصرافة الذي كان يعمل فيها في السليمانية، وهناك تحدث إلينا أيضاً عن كيفية دخوله هذا المجال في 2016 عندما كان عدة آلاف من الأشخاص يستعدون للتوجه إلى أوروبا.
وقال العقرب: “لم يجبرهم أحد. لقد كانت إرادتهم. كانوا يتوسلون إلى المهربين قائلين: نرجوكم، من فضلكم افعلوا هذا من أجلنا. وفي بعض الأحيان يقول المهربون: سوف نساعدهم لوجه الله”.