جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يكبر البشر وعبر مرور السنوات والقرون يتراكم لديهم ما يسمى بالخبرات والأفكار التى يعتبرونها بمثابة حلول يوصى بها لما قد يتكرر – فالحياة فى نظرهم تماثلات وتكرارات- ومن ثم تتشكل فلسفات المضي فى الحياة تنميطا، بينما يظنونها ثمارا طازجة، يراها البعض وصفا سائغا للتعامل مع كل ما يقابلهم، يحلو لهم أن يقتطفوها، يلوكونها ليعتصروا مخزون حكمتها وطرائق وصايتها كعلامات بها يمضون فى دروب الكون، ما ضاق منها واتسع، ما ثبت فيها وما تبدل تبديلا، كأن من قال هذا قد أحسن وصف طريق الحياة – كل حياة وفى كل زمن – لمن يعيش تجربته وظروفه المستجدة، فقد خبر مغاراتها وطرقها الوعرة ذاتها واستكشف بيقين مسترخ مواضع ذللها، وانتهى إلى كتاب حياته يقدمه حلا يسيرا سهلا يوصى به، لكن ورغم كل ذلك “التراث” المتراكم والمخزون الذى يفرض رؤيته ووصايته يمضى البشر فيكررون عبر الأجيال وعبر القرون والألفيات المشاوير الجديدة، والتى يصرون بعد ذلك أنها تتشابه فى أنها امتلأت بالحكمة والعبر ثم انتهت بالإستخلاصات “الوصايا” أيضا.
تخبرنا الكثير من كتب ومرويات المذكرات والذكريات المصرية والعربية، وما أكثرها حين تطوف بها، عن بعض ما بقى فى عقول أصحابها وضمائرهم وأيضا وجدانهم من فلسفة الحياة، يغلب عليها فكرة اختزال الوقائع ثم الكثير من اللاجدوى وتساوى كل شئ، رغم اختلاف شخصياتهم وتفاصيل حياتهم، لتبدو حين تقرأها إستخلاصات شفافة حزينة حتى لتأخذك الدهشة من بلاغة مفرداتها ألما، وهنا تحديدا يكمن عيبها الكبير، وهو أن معظم كاتبيها سردوها فى لحظة زمنية وعمرية وحياتية حكمت تتالى استدعاء الخبرات فى الذاكرة وفى طريقة الإنتقاء للأحداث والوقائع ومن ثم فلسفتها تلك، فكأنها تقول عبر شرائط نصوصها وحكاياتها أن الوقائع متشابهة فى نتاجها مهما اختلفت فى حينها، وأن أنظر كيف أن كل ما قد مر به الشخص من نجاحات وعبر كل تلك الذكريات انتهى هكذا مختزلا إلى لا شيء.
تتجاهل عملية تقطير الحكمة تلك عبر هذه المذكرات والذكريات أوقات الحياة الطيبة التى عرفها الفرد، تلك الضفيرة من الحياة أو يومها الحلو، فتسرده مختزلا سريعا عابرا أو ربما حتى تقفز عليه تحت تأثير زمن السرد وسياق الاستدعاء، فلحظة الكتابة وصورة الشخص لذاته وهو يكتب تحكم الرؤية والهدف والاختيارات، فتتشكل عدسة رؤية كل ما مر به لتسرده مصبوغا بتأثير اللحظة فى نصوص معظم تلك الذكريات، لتبقى ظاهرة مكررة صخور صغيرة سوداء لا تمر من ثقوب غربال الذكريات المحكية بينما تنسل منها اللحظات الحلوة عابرة لا يبقى منها إلا القليل فى ذاكرة الحكى.
أظن أن كثيرا من الذين يقرأون ويحبون أن يمضوا فى الحياة على ضفاف تجارب آخرين متمثلين بحكمتهم “الكبيرة”، أو ملتقطين من صفحات ما أقوالا مأثورة ليقتفوا أثرها، إنما ينقلون من النص الساكن من دون أن يمزجوا معه جرأة الشغف وجسارة الخوض عبر ايقاعات وأمواج الحياة كسباحين أوائل، فيفقدون طزاجة تذوق ثمار أول الأشياء بكل ما قد تمنحه من طعم اجتياز التجربة الخاصة، دربا فريدا ولو تكرر، وإلا ما حكمة تعدد البشر فى الكون واختلاف بصماتهم.
يثبت كل ذلك فى العقول تاريخيا حالة الشجن بل وربما استعذاب استدعائه انتاجا ثم قراءة فى تلك الذكريات، تقلل من التفاعل الخلاق مع المستقبل وتجلياته لتصير معه الأشياء جميعها وفقا لذلك “طيف خيال”، بينما يتم التغافل عن كون الحياة إنما تظل تؤتى ثمارها متجددة، وتتطلب تكيفا وتجديدا وشغفا فى كل حين، وحيث الحديث النبوى الكريم دال فى هذا السياق يمنح المعنى ويحث على المضى فى الحياة دأبا وأملا:”إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.