جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
فرضت أزمة غزة، بأبعادها الإنسانية والمجتمعية، وطوال شهور ثلاثة مضت، أولويات متابعتها على كل من الصحف والقنوات الإخبارية ومواقعها وعلى جمهورها، ارتباطا بأحداث غزة المتلاحقة ويومياتها المليئة بالوقائع التى تتضمن استهداف وقتل المدنيين، وما تضمنته من قصف شامل للبنى التحتية بها، ومحاولات تهجير وإبعاد لجموع سكانها، فظهرت لتحتل تغطياتها المساحة الأكبر من التعبير الشهير على مواقع الصحف ووسائل الإعلام، وهو” الأكثر قراءة”، وحافظ ذلك التواجد على حضوره المكثف عبر شهور الحرب، ليقطع ما كان سائدا قبله، فى الأحوال العادية من السياقات، من نمط تفضيلات للجمهور يجعل ما يقبل عليه حاضرا فى قوائم الأكثر قراءة كما تنشره مواقع الصحف ووسائل الإعلام، لكن مع استمرار أحداث غزة وتواتر مشاهد القصف والقتل والتدمير، وبعض ألفة الجمهور مع ما يجرى، ربما أعاد قطاعات الجمهور إلى سيرتها الأولى بشكل نسبي ولكنه ظاهر، يعبر عنه تصفح قوائم الأكثر قراءة، على أن هذه القوائم “الأكثر قراءة” الجديدة لم تخل بالطبع من خبر أو أكثر له طابع إنسانى عن أحداث ونتائج العدوان على غزة وغيرها من تغطيات لأولويات حياتية.
لكن ما كان سائدا على المواقع من قوائم الأكثر قراءة وعاد بشكل نسبي واضح هو نمط يجدر النظر إليه وفهمه، وهو يعبر عن حالتى تفاعل بين ما تقدمه الصحف والمواقع من محتوى تراه جذابا للجمهور، وحالة إقبال الجمهور عليه، بما يجعله ضمن الأكثر قراءة، وهنا يجدر القول إنه يمكن تعريف توجهات وسياسات تحرير الموقع الصحفى والإعلامي بقراءة أولية لما يراه الجمهور موضع اهتمامه وتركيزه به، وتمنحه الصحيفة والموقع له، ليكون مصنفا فى الأعلى قراءة لديه، وعندما تخلو تلك القائمة من أخبار جادة ولها أولويات حياتية، فإنه هنا يجدر النظر فيما يقدم ومعه كيف يشكل تواتر ما يقدمه الموقع لجمهوره عبر الوقت ما ينتظره منه الجمهور بعد ذلك، وتبدو المشكلة هنا أن ذلك يفقد بعض المواقع خصوصيتها المهنية ويضعها فى مجال التشابه مع غيرها، كما أنه لا يحافظ ولا ينمي كتلة قراءة متماسكة تعرف تقليديا بجمهور الصحيفة أو الموقع.
وعندما تتصفح بعض مواقع وبوابات الصحف ثم تنظر نحو قائمة الموضوعات الأكثر قراءة، وهى التى اختارها الجمهور من حيث كثافة المتابعة، لن تكون الإشكالية المهنية أنها تتضمن فى قائمة “الأكثر قراءة” تغطية لحادثة أو جريمة بشعة تتضمن جانبا مثيرا، أو تصريحا منقولا – فى عصر الذكاء الاصطناعي؟!- عن من تُقدم باعتبارها متخصصة فى قراءة المستقبل عبر كروت “التاروت”!، أو حكاية لأحد نجوم أو نجمات السينما ذات صلة بعملهم أو تتعلق بحياتهم الشخصية، لن تكون المشكلة فقط فى وجود ذلك ضمن قائمة الأولويات، بل المشكلة المهنية هى أن تكون كل قائمة الأكثر قراءة أو معظمها على هذا النحو، وأن يستمر ذلك نمطا يوميا متجددا.
لن نستطيع الاكتفاء بالقول أنه هكذا انتخب الجمهور من كل أحداث العالم مايهمه أو يحبه وجعل ذلك نمطا حاضرا ومداوما وأكثر قراءة فى مختلف المواقع والصحف، بل أن الأمر يشبه أن تقدم لطفلك الصغير مائدة يومية مليئة بأصناف الوجبات السريعة ومعها أصناف المشروبات الغازية، ثم تقول ماذا أفعل إنه يختار ما يحبه ويأكله، وإننى لست مسئولا عن فرط سمنته، التى تتشكل مع الوقت لتكون حاجزا بينه وبين جودة ممارسة الحياة.
هكذا ومع الوقت يصيب الضرر أيضا تلك المواقع حين ينهمك القراء فى إبعاد وإقصاء المضامين التى تعبر عن مهارة ومهنية وجهد تحريرى، ويمنع أن يكون لها حضور وثقل واستمرارية، فلا تتشجع إدارات التحرير على تبنيها ودعمها كثيرا كرد فعل على ذلك، فتتوارى مع الوقت عن التواجد كحالة صحفية مميزة لكل صحيفة أو موقع تعرف به نفسها أمام جمهور القراء.
من المهم هنا أيضا أن نؤكد أن بعدا مهما وإضافيا فى مجال تطوير آداء الصحف والمواقع وممارساتها، ولن يكون كافيا التعامل معه بحلول مهنية وتطبيق أكواد أخلاقية وفقط، وهو ضرورة النظر فى مجال ثقافة الجمهور فى التفاعل مع محتوى المواقع الصحفية ووسائل الإعلام، ودراستها بشكل موسع وتفصيلى، وهو مسار يمنح فى نتائجه ومؤشراته لهيئات الصحافة والإعلام بدائلا وحلولا مهنية لتقليل وفك هذا الإرتباط غير الصحى، ونقصد بذلك قطاعا ضخما من الجمهور يشجع ممارسات إعلامية لا تعبر عن جوهر المهنة وآفاق تطورها.
علينا أن نبذل جهدا بحثيا ومعرفيا يؤدى بنا إلى أن نصنع توافقا مهنيا وتغييرا نوعيا لحالات اهتمامات وأولويات القراءة، وألا تكون التسلية مجرد وظيفة إعلامية بدائية، بل إطارا مهنيا يجعل المحتوى الصحفى جذابا وممتعا ومشوقا، إطارا يغلف طريقة اختيار الأفكار ومعالجتها، والاطلاع على تجارب دولية هنا مهم، وتقديم رؤى ومبادرات مهنية مطلوب تماما، عسى أن نجد ذات يوم قريب فى قوائم الموضوعات الأكثر قراءة نسبة معتبرة مما يقرأه الجمهور مهنيا، مفيدا وممتعا معا.