جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
هناك بعض الخصائص ذات الأهمية لعملية التفكير وترتبط بتقاليد الثقافة الشفاهية البشرية ذات التراكم عبر مدارات الأزمنة، منها الميل المكثف للتلقى المنتشى للتعبيرات البلاغية الإيقاع والجذابة لفظا والرنانة لحنا وفق أنماط تلقى عصرها وجاذبية أوانها، تلك التعبيرات التى تبدو من حسن تنسيق كلماتها ودقة اختيارها كافية تماما لتصنع الأثر المطلوب، إذ تشكل نسقا جماليا يخترق مصدات التفكير الناقد، وحيث تصيب فى النفوس قبولا واستجابة استعذابا لإيقاعها وجرس لفظها وما تتحلى به من جماليات وسمات منطقية شكلية.
وكم عاشت نصوص وأعمال فنية روائية وشعرية وسينمائية بقوة جذبها لأجيال مختلفة وفق هذا الوصف، واستقرت يقينا مسترخيا فى باب الأعمال “الكبيرة” وربما “الخالدة”، حتى قطع تواصل ذلك قدوم عصر الاستهلاك النصى والمرئى العظيم الذى صنعته منصات التواصل الاجتماعى، مقدمة بديلها العصرى غزير الإنتاج وسريع الاستهلاك والتلف أيضا فى دورات مكتملة قصيرة زمنا تتوالى بتتابع مضطرد، ولعل مراجعة للكتب الرائجة والمهمة التى نشرت عبر عقود مضت وكيف توقف انتشارها فى عصر المنصات كفيل بذلك، وهو أمر سيسرى على أعمال أخرى هى رائجة الآن وفق حداثة إنتاجها وقدرة صانعيها على إعادة التذكير المستمر بها فضلا عن حضورهم على منصات التواصل لترويجها، ولربما تلقى ذات المصير، وذلك ليس لشئ يخص محتواها فى ذاته ومهما اختلفت طرائق تقييمها نقدا، بل هو بعض جوهر طبيعة ثقافة الإنتاج والإستهلاك الثقافى والأدبى والفنى المعاصر التى أسست لها بيئة الإنترنت، وتشكلت على أساسها ذائقة جمهورها “الجديد” الذى يكبر دوما وتترسخ أنماطه الحياتية، كما حددت أيضا وتيرة تسارع تحولات تلك الذائقة.
هنا ربما يطل السؤال هل سيمنح الزمن أو الأزمنة المتأسسة على التفاعل قراءة ومشاهدة عبر شاشات الموبايل حيزا لإنتاج محتوى ثقافى وفنى يبقى ويحتفى به ويعاد إنتاجه وتمثله عبر الأجيال – كما حدث ذلك تاريخيا- باعتباره أعمالا خالدة جديدة؟!.
عموما يحظى أبناء وأجيال ثقافة منصات التواصل وشاشات الهواتف الذكية بفلسفة “تلقائية” هى ابنة عصرها بأن نمط الاستهلاك السريع يسبق كل شئ، ولعل هذا فعل إنسانى تصنعه متغيرات وإيقاعات العصر، ويواصل ذلك تقليدا جزئيا تلحظه أجيال أسبق حين تعيد قراءة وتلقى ثم المقارنة بين روايات أو أعمال أدبية وفنية قديمة سحرت خيالها واستقرت فى وجدانها باعتبارها “معلقات” عصرهم، ثم حين تعيد حاليا – وبعد زمان- تمثلها ترى أن ما تقرأه الآن لم يكن أبدا جديرا بكل ذلك الإنبهار المستسلم والاحتفاء الأبدى، ولتعرف أن ذلك هو أثر الأيام إذ تمضى وتأخذ معها طفولة الدهشة السريعة ذات الإستجابة الفطرية الجاهزة للمثيرات الخارجية انبهارا.
وعلى العكس من ذلك أيضا فقد ظل لديهم أيضا القليل جدا من النصوص والأعمال كساحات للإكتشاف المتأخر والمتجدد معا، وحيث مع كل استماع او قراءة أو نظر تمنح فيوضاتها بخبرات سياق التلقى الجديدة لتصبح فى عرفهم الأعمال الخالدة “الجديدة” وحيث يحتاج الناس دوما إلى مرتكزات يقين، والتى أحسب أن زمن الاستهلاك النصى السريع الذى أتاحته منصات الإنترنت يوشك أن يضيع بهاء تلك “الذخائر” التى أرخت والتصقت بنمط تفكير وذاكرة الأجيال السابقة.
ذلك أن كثرة وغزارة وتنوع الإنتاج وتعدد مستوياته وسرعة إتاحته وأيضا دورة انتهاء عمره تجعله غذاءا ثقافيا قريبا ويسيرا فى فضاء منصات التواصل، وهى فكرة تترسخ لدى كثير من منتجي الأعمال الفنية والأدبية أنفسهم وتشكل خصائص محتوى تلك الأعمل لتكون قابلة ومتقبلة معا لفكرة الاستهلاك السريع، وربما لذلك تأثيره الكبير على تواتر الوعى بأفكار فى هذا السياق، فقد حفظت أوعية المعلومات القديمة ذخائر المعرفة الإنسانية عبر مراحل الزمان وتعاقب الحضارات، تلك الأعمال التى حظت بإجماع ما أنها أفضل نتاجات عصرها، لكن كيف ستتعامل الأجيال والقرون اللاحقة مع كل هذا الإنتاج الغزير الجديد الذى تنتجه قريحة الحاضرين على منصات التواصل وغير المصنف تأصيلا وجدارة وأيها تنتقيه تعبيرا عن ثقافة عصورهم وتدليلا على أنماط معايش وطرائق تفكير وذكريات هذه الأجيال والتى تكفلت الكتب بتنويعاتها والعمال الأدبية والسينمائية بتوثيقها حفظا فى حين أصبحت حوليات الفيس بوك الأرشيف الإنسانى الكبير ومخزن التراث “الجديد” فهل سنشهد عصرا جديدا لمؤرخى تاريخ المجتمعات عبر صفحات الفيس وتويتر والتيك توك ؟!.
وكما تُعلمنا فلسفات الأزمان أن لكل شئ إذا ما تم نقصانا، ومن ثم فإن فوران غزارة المعرفة وتنوعها فى منصات التواصل يحمل فى داخله جدل مشكلات تداخلها وغياب آليات تمييزها وفرزها، ولعل نظرة على كم عناوين الكتب المنتجة خلال عقد واحد من عمر تلك المنصات وفى بند معرفى واحد فقط يخص الإنتاج الروائى والقصصى تقول لنا كيف أثرت مواقع التواصل الاجتماعى على حجم وطبيعة الإنتاج وعلى خصائص التلقى أيضا، وكيف منحت الشجاعة والمبادرة لإنتاج كثيف غزير متعدد لايمكنك أبدا أن تحكم عليه بيسر وتصنفه متسرعا، لتستخلص من ذلك أنه رغم الإتاحة ويسر النشر تسللت ببطء غيوم غموض المعرفة وصعوبة الإحاطة بما يشبه دورة الزمانات القديمة، التى يجتهد فيها الباحثون فى اقتفاء لآثار مهمة كاشفة نادرة لتعبيرات الأزمان، وهكذا يظل دوما أن للحياة منطقها وللزمان قوانينه.