جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
إنها إحدى ثمرات الكفاح بين جيل الرواد وبين المستعمر، أقامها شعب مصر رغم أنف المستعمر، ترى مبنى جامعة القاهرة بجلاله ووقاره، ترى القبة تحتضن المباني المنتشرة من حولها، ومن هنا تشاهد مشهدًا بانوراميًا لعميدة الجامعات الحديثة في الوطن العربي. وتقترب من الجامعة فتسمع دقات الساعة من برجها الشهير، وكأنها تُذَكِرَكَ بما لا يجب أن يضيع الوقت.
ذات يوم كُنتُ في زيارة لأحد أساتذة كلية الآداب قسم الفلسفة – ولم تكن هذه الزيارة هي الأول لجامعة القاهرة – إلا أن دقات الساعة عندما تعامدت عقاربها على الرابعة عصرًا كانت بمثابة ترنيمة تعزف ألحانها بداخلي وكأنها تقول بصوت هادئ ها أنت الآن بداخل محراب وقلعة الفكر والثقافة وسرعان ما جال بخاطري تاريخ هذا المكان النابض بالوطنية والثقافة والفكر. وسآخذكم أعزاءنا القراء في جولة موجزة من داخل جامعة القاهرة لنتأمل تاريخ ذلك المكان.
ولنبدأ جولتنا بالحديث عن الزعيم مصطفى كامل، الذي كان يرى أن مهمته الأولى قهر اليأس الذي أصاب الأمة آنذاك، فأخذ يفتح آفاقًا جديدة للمستقبل، ويدعو إلى فكرة الجامعة على صفحات جريدته اللواء، وأطلق صيحته في 26 أكتوبر عام 1904م، وخط بقلمه قائلًا: “آن الأوان أن يفكر قادة الأمة في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة”.. ومنذ ذلك الوقت أخذ على عاتقة الدعوة لمشروع الجامعة.
كما نقلت لنا “جوليت آدم” – كاتبة فرنسية – في كتابها “إنجلترا في مصر” إحدى رسائل مصطفى كامل إلى محمد فريد في 24 سبتمبر عام 1906م يقول فيها: “خير هدية أقترح عليكم تقديمها للوطن العزيز، وللأمة المحبوبة، هي أن تقوم اللجنة التي ألفت بدعوة الأمة كلها، وطرق باب كل مصري لتأسيس جامعة أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وتهب الوطن الرجال الأشداء..”.
ومن هنا بدأت فكرة إنشاء الجامعة تجذب عددًا من قادة الرأي، مثل الشيخ محمد عبده، وعرض أحمد منشاوي باشا أرضًا يملكها في باسوس وأعلن استعداده لإقامتها من ماله الخاص، ولكن ما لبث أن توفى الشيخ وتوفى الباشا، وكانت وفاتهما نهاية للفكرة قبل أن تولد.
ورغم تعثر الأمر بعض الوقت إلى أن جاء أحد اعيان مصر في ذلك الوقت بمحافظة بني سويف وهو مصطفى كامل الغمراوي، وأعلن تبرعه بمبلغ خمسمائة جنيه لمشروع الجامعة، ولم يكتف بالتبرع فحسب، بل قام بالمناشدة ونشر نداء في جميع الصحف داعيًا للمساهمة في إنشائها.
وانتبه لهذا النداء الزعيم الراحل سعد زغلول، فصدر بيان من منزله في 21 أكتوبر عام 1906م، بعد اجتماع ضم لفيفًا من قادة الرأي مثل قاسم أمين، ومحمد فريد، وحفني ناصف، والشيخ عبدالعزيز جاويش. ووصل اكتتاب المجتمعين إلى أربعة آلاف و485 جنيهًا، وتم تكوين لجنة تحضيرية يرأسها سعد زغلول، وأمينها العام قاسم أمين.
ولك أن تتخيل عزيزي القارئ الصراع الحميد البناء الذي نشأ، وتصارعت الجهود نحو ذلك المشروع، فحين علم مصطفى كامل بإعلان تشكيل لجنة تأسيس الجامعة؛ أرسل من أوروبا يحتج على سعد زغلول وقاسم أمين، فإنه سبقهم إلى الفكرة، ويجب أن يكون تنفيذها تحت رعايته. وفي ذلك الوقت عُين سعد زغلول وزيرًا للمعارف في 28 أكتوبر 1906م، وتمكن من تقديم مساهماته ومساعدته بقوة من خلال موقعه الجديد.
وفي عام 1933 تخرجت أول دفعة من طالبات الجامعة المصرية، وكانت تتكون من نعيمة الأيوبي من كلية الحقوق، وعائشة راتب وهي أول معيدة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وسهير القلماوي، وفاطمة سالم وفاطمة خليل من كلية الآداب.
وبمرورنا بجانب مبنى كلية الآداب نلمح بمدخل المبنى أعلى درجات السلم الأرضي الموصلة للدور الأول تمثالًا للمفكر والأديب الدكتور طه حسين، فكان أول المنتسبين للجامعة حين فتحت أبوابها سنة 1908م، وحصل على درجة الدكتورة في 1914م. وتدرج في المناصب حتى وصل لعمادة الكلية. فكان صاحب رؤية وبصيرة فذة، حيث ندد بأهمية الطابع العلمي للجامعة، وكان شعاره دائمًا “إن الجامعة تتألف من طالب حر وأستاذ حر”.
وفي يوم 31 أكتوبر لسنة 1973م، ومن قاعة الاحتفالات بحرم جامعة القاهرة تحديدًا الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم، تم تشيع جنازة الدكتور طه حسين وسط حشد جماهيري ضخم يودعون نصير العلم والمتعلمين. وهي تمثل أول جنازة تخرج من جامعة القاهرة طبقًا لوصيته، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على حبه الشديد والمتجذر للعلم والمعرفة، فكانت الجامعة بالنسبة له المنبر الداعم طوال سنوات معاركه التنويرية.
كانت فكرة ثم حلم قومي ثم تحقق ذلك الحلم بسواعد رجالها الوطنيين، ومن هنا على أرض جامعة القاهرة نستنشق عبق التاريخ، وشاهدنا كيف قامت فكرة الجامعة في احضان الحركة الوطنية، وكانت من أهم منجزاتها، وعادت الجامعة بدورها لتقدم لمصر والوطن العربي جيلًا من الرواد العمالقة، الذين رفعوا مشاعل الحركة الفكرية والثقافية والأدبية والعلمية، وحملوا عبء التطور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع.