12:42 ص
الإثنين 16 أكتوبر 2023
كتب- محمود الطوخي:
تخلت عن مقعد المحاور بعد سنوات طوال، واحتلت مقعد الضيف في ظهورها الأخير على الشاشات، الدموع قد غلبتها وشقت مجاريها في خديها اشتياقاً إلى بيروت، أهلها ورائحتها ومعالمها، بعد سنوات غياب في عملها بالخارج، وها هي الآن تعود إليها مستقر أخير؛ لتوارى الثرى اليوم الاثنين في مسقط رأسها بقرية (العقيبة الكسروانية ببيروت) بعدما نال منها السرطان.
لطالما كانت لسان للحقيقة أو الباحثة عنها قدر ما استطاعت، تأبى أن تقيد حواراتها حدود غير مهنية، مرتكزة على ما حصلته من دراستها للتاريخ في جامعة “روح القدس” والإعلام في الجامعة اللبنانية، تقطع بكلماتها أوصال الشكوك وتشق بها الصدور عن رغبات وتساؤلات، منذ أن بدأت مشوارها بـ”حوار العمر” عبر “المؤسسة اللبنانية للإرسال” عام 1985، لتكون ضمن قائمة صحيفة “نيويورك تايمز” أفضل الإعلاميات في العالم عام 2005.
لكن ذلك كله لم يشغلها عن ممارسة الأمومة لابنها مروان وابنتها رنا من زوجها الأول الطبيب إيلي خوري، حتى في أيامها الأخيرة لم تنس أو تسمح للمرض أن يمنعها من تهنئة ابنتها برسالة: “بالأمس فقط كان عمري 20 عاما، لقد جعلتني أما لأول مرة، عيد ميلاد سعيد يا كبيرتي لكن بالنسبة لي ستظلين صاحبة الدمية الصغيرة ذات المصاص الحمراء”.
الآن ترحل خوري وليدة عام 1961 بغير وداع لتكون نجمة في سماء ازدحمت بنبلاء الذكريات، ومن مكانها ومكانتها حيث أدركت رسالتها الأسمى، حاورت وجادلت عظماء ورؤساء بغير حذر أو مداهنات، حينما سألت في خضم أحداث سوريا “بشار الأسد كيف بينام؟”، أو جولاتها مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، اليوم تموت لتحيا من جديد وتسكن نُزل الخالدين، دافعة من رصيد نضالها الطويل ثمناً لذلك.
ولن تغيب صورتها في ذاكرة أبنائها (مروان ورنا) وجمهورها حينما تلهب حواراتها، لمّا كانت تقتحم خواطر ضيوفها وسريرتهم فتنبش خفاياهم وتشعل بذلك “ستوديو بيروت”، أو تَسوقهم إلى التوضيح ليفهمهم الناس “بالعربي” على قناة “العربية الإخبارية” بين أعوام 2003 و2013، قبل أن تتقدم وتزيّن “المشهد” على شبكة “بي بي سي” عام 2014، حتى استقر المتابعون “مع جيزيل” على “سكاى نيوز عربية” عام 2020.
اليوم تُطيب صاحبة الـ 62 عاماً جراح قدميها الحافيتين في شوارع بيروت؛ احتفاء بسقوط الرئيس اللبناني إيميل لحود عام 2007، وتنتهي آراؤها حول فلسطين وقضايا القومية العربية، التي شكلت نقطة لقاء بينها وزوجها الثاني، الصحفي اللبناني الراحل سمير قصير الذي تزوجته بعد انفصالها عن إيلي خوري الذي اقترنت باسمه منذ كانت ابنة 20 عاما وحتى مماتها.
عاشت “فارسة جوقة الشرف الفرنسية” راهبة في محراب الوفاء لزوجها، تخلده بمؤسسة ثقافية وفنية تحمل اسمه “سمير قصير”، حملت لواء تنميتها في حياتها ولم تغب عن ذهنها خلال لحظات احتضارها، لتوصي باستمرار عملها وعطائها وتكون كما أرادتها”منارة الشرق الفنية والثقافية من بيروت”.
الآن وقد انتهى المشوار، تُرسم شريطة سوداء في أقصى زاوية صورتها معلنة الرحيل بغير رجعة، وتكون اليوم الاثنين على موعد ارتقبته منذ أكثر من 18 عاما مع زوجها سمير قصير منذ اغتياله 2005، بعدما ودّعته ومدينة بيروت في 2020 قائلة: “بقللو لسمير سوري عذرني، بس بدي روح”.