دبي- محمد سمير فريد وأحمد جمعة:
18 عامًا من الأحلام التي لا تتوقف، والأفكار التي لا تنضب، والآمال التي تتواصل عاما تلو الآخر في رحلة ملاحقة التطور الواسع في مجال شديد التعقيد والاحترافية في آن واحد، وصولاً إلى هنا، حيث مركز محمد بن راشد للفضاء بدبي، خلية العمل المستمرة دون تأخير، حاملين راية حلم عربي كبير لا يقتصر على الإمارات وحدها.
بمجرد دخولك إلى المركز تجد نصب عينيك عمل في كل اتجاه، هنا حيث يستمر تطوير القمر الصناعي “MBZ sat”، وهناك حيث تجهيزات المستكشف الجديد “راشد 2″، وبين هذا وذاك طموح كبير يمتد حتى العام 2117 لإنشاء مستوطنة على سطح المريخ.
“مصراوي” قضى يوماً داخل مركز محمد بن راشد للفضاء الذي يطور قدرات الإماراتيين منذ فبراير 2006، حيث عايشنا أحلامهم واستمعنا لخططهم، ورأينا رؤيا العين تخطيطهم للمستقبل.
راود حلم الفضاء خيال الإماراتيين منذ عشرات السنين، اتخذوا خطوات جادة وسريعة، جاءت لبنتها الأولى بتأسيس مركز محمد بن راشد للفضاء في 2006، إذ كانت رؤيتهم أنه “لا ينبغي للعرب أن يتخلفوا عن ركب التطور المذهل في علوم الفضاء”.
يقول عدنان الريس، مساعد المدير العام لعمليات واستكشاف الفضاء بمركز محمد بن راشد، إن “الهدف المباشر في سنوات التأسيس الأولى كان تطوير قدراتنا الوطنية في مجال علمي وتقني واسع، والعمل مع شركائنا على مستوى العالم لنكون عضوا فاعلا في هذا المجال”.
بدأ مركز محمد بن راشد في تطوير الكوادر الوطنية بالإمارات من خلال برامج مكثفة لنقل المعرفة، ليصبح لديهم الآن أكثر من 250 مختصًا إماراتياً في مجال علوم الفضاء، 40 بالمئة منهم سيدات، بحسب تصريحات “الريس”.
ومع تطوير تلك القدرات، حددت الإمارات 4 برامج متنوعة في علوم الفضاء، يأتي على رأسها تطوير الأقمار الصناعية، واستكشاف القمر، وفي القلب من ذلك استراتيجية المريخ 2117، إضافة لبرنامج الإمارات لرواد الفضاء، وكان ذلك مثارا لمتابعة إقليمية مؤخراً عبر رحلات رائدي الفضاء هزاع المنصوري وسلطان النيادي.
لا يزال عامر الصايغ، مساعد المدير العام للهندسة الفضائية بمركز محمد بن راشد، يتذكر الخطوات الأولى، وسنوات التجهيز والإعداد، وصولا للأحلام الكبرى.
كانت الخطوة الأولى الجادة بإرسال فريق من المهندسين والعلماء الإماراتيين إلى كوريا الجنوبية لنقل المعرفة والخبرات في العديد من البرامج، حيث أمضى 10 سنوات كاملة في معرفة ودراسة تفاصيل التصنيع والتصميم للأقمار الصناعية.
ويوضح أن الإمارات تمكنت من تطوير قمرين صناعيين مع الجانب الكوري الجنوبي هما دبي سات -1، ودبي سات -2، مضيفاً: “الأهم بالنسبة لنا كان تأهيل الكوادر، وبات لدينا متخصصين وتقنيين في هذا المجال وصل عددهم لما يزيد عن 30 مهندسا في كل تفاصيل التصميم والتصنيع للأقمار الصناعية”.
ثم جاءت الخطوة الثانية في رحلة تطوير الأقمار الصناعية، بالاتجاه لتوطين الصناعة ذاتها داخل البلاد، مع تأسيس المختبرات داخل مركز محمد بن راشد.
وبالتوازي مع إطلاق الأقمار للفضاء، مضى المركز قدمًا في تأهيل الكوادر الوطنية للاستفادة من الصور والبيانات التي تصل إليهم من الفضاء، إذ يقول الصايغ إن المركز بات لديه فريقاً متخصصاً بدراسة جميع العمليات والبيانات والصور القادمة من الأقمار الصناعية.
يضيف مساعد المدير العام للهندسة الفضائية بمركز محمد بن راشد: “نستفيد من بيانات الأقمار الصناعية كحكومة، ونوفرها للجهات المختلفة محليا ودوليا حسب الحاجة، حيث نتعاون مع دول أخرى مثل مصر والبحرين والكويت ونمدها بتلك البيانات للاستفادة منها في قطاعات مختلفة مثل البنية التحتية ومتابعة المشروعات، إضافة لإمدادها لمؤسسات عالمية متخصصة في الأزمات والكوارث لدراسة بعض القضايا مثل تأثير الفيضانات والزلازل والتسونامي”.
لم يتوقف حلم تطوير الأقمار الصناعية عند هذا الحد، فمع عودة الفريق الإماراتي من كوريا الجنوبية جرى العمل على القمر “خليفة سات” وإطلاقه للفضاء بنجاح.
أما الآن، فيتابع الصايغ ورفاقه يوما تلو الآخر حلما جديدا بالعمل على تطوير القمر الصناعي “MBZ- sat”، والمخطط إطلاقه هذا العام، حيث من المتوقع أن يرفع الطلب المتزايد على صور الأقمار الصناعية عالية الدقة التي ستظهر التفاصيل في مساحة أقل من متر مربع واحد، والتي ستكون واحدة من أكثر الميزات تقدمًا على الإطلاق.
يوضح الصايغ أن الأقمار الصناعية تعتمد بالأساس على تأهيل المهندسين وإعطائهم الفرصة، وما يميز القمر الحالي أنه تم التركيز على القطاع الخاص في الإمارات، وبالتالي جرى تصنيع أغلب الأنظمة الميكانيكية في هذا القمر مع شركات محلية موجودة بالفعل، لكن مع تغيير بعض معاييرهم لتأهيلهم لإنتاج مواد تستخدم في الأقمار الاصطناعية.
ويعد “MBZ- sat” هو القمر الصناعي الأضخم الذي تعكف الإمارات على تصنيعه، ويبلغ ارتفاعه 3 أمتار، في حين يبلغ عرضه مع فتح الألواح الشمسية قرابة 5 أمتار.
وشاهد مصراوي مراحل تطوير القمر الصناعي “MBZ- sat”، حيث يلتف العاملون لمواصلة مهامهم بدقة داخل “الغرف النظيفة” حسبما يُطلق عليها، وهيّ غرف شديدة التعقيم والتأمين، إذ أن “شعرة رأس واحدة قد تُهدر مجهود فريق كامل وسنوات عديدة”، بحسب الصايغ.
وتعد “الغرف النظيفة” أساس تطوير الأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية، ففيها يتم التحكم بالمتغيرات البيئية كالحرارة والرطوبة والضغط، وتهدف بالأساس إلى منع حدوث تلوث خلال تصنيع الأقمار الاصطناعية مما قد يؤثر على أدائها خلال المهمة.
وسمح فريق مركز محمد بن راشد لنا بالدخول إلى إحدى هذه الغرف، لكننا فوجئنا بتلاصق القدم قليلًا وقت المرور إلى الغرفة، في حين أرجع الفريق ذلك إلى أن الدخول إلى هذه الغرف يتطلب إزالة أي غبار عالق بقدم الشخص، وإجراءات صارمة تشمل ارتداء ملابس خاصة وتغطية اليدين والرأس والأقدام.
مستوطنة على المريخ
لم تتوقف تطلعات مركز محمد بن راشد عن الطموح والحلم، حيث فوجئنا بحديث الصايغ عن “استراتيجية المريخ 2117”.
وتساءل مصراوي عن الهدف من هذه الاستراتيجية بعيدة الأمد والهدف منها، حيث جاء الرد معبراً عن الطموح الكبير: “نسعى لزيادة فهم البشرية لمجموعتنا الشمسية، وبالتالي نخطط لإرسال رواد فضاء إلى المريخ، مع وضع استراتيجية طويلة الأمد لبناء مستوطنة على المريخ بدأت منذ العام 2017، وتستمر ل 100 عام، ولذلك أطلق عليها إستراتيجية المريخ 2117”.
ويضيف: “بنهاية الـ 100 سنة نطمح أن يتم بناء مستوطنة على المريخ، واستدامة العيش على سطح المريخ حتى لا تكون مجرد رحلة فقط، وحتى نحقق ذلك هناك تطوير للكثير من العلوم وتعاون دولي في هذا الإطار”.
ويعتبر الصايغ أن هناك احتمالية لوجود مياه على كوكب المريخ، وبالتالي قد يكون ذلك بداية لتطوير تقنيات الزراعية والموارد الطبيعية، ومن ثم فهي رحلة بحثية واستكشافية مهمة للغاية.
محطة الفضاء القمرية
ويتوازى مع تلك المهمة، برنامج الإمارات لاستكشاف القمر، إذ يشير عدنان الريس إلى أن “الهدف منه تطوير قدراتنا الوطنية في مجال الروبوتات وتطوير أنظمة تهبط على جرم سماوي وكواكب أخرى في المستقبل”.
وجرى تطوير “المستكشف راشد” الذي وصل إلى سطح القمر في أبريل 2023، والذي رغم تحطمه يُنظر إليه داخل المركز بأنه “تجربة ناجحة”.
ويُرجع الريس ذلك إلى “تطوير العديد من التقنيات واختبارها في الرحلة التي امتدت لأكثر من 4 شهور”، مضيفاً أنه “بعد وصولنا إلى سطح القمر كانت لدينا زيارة في اليوم الثاني للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ووجه بالعمل فوراً على المستكشف الثاني راشد 2”.
ويعكف العاملون بمركز محمد بن راشد في الوقت الراهن على تطوير المستكشف الثاني، الذي سيكون التجربة الثانية للإمارات للوصول إلى سطح القمر.
يقول الريس: “سنطبق ما تعلمناه في التجربة الأولى، وسيكون مهمة تشاركية بأن نأخذ تقنيات وحمولات من دول أخرى لنقلها إلى سطح القمر، وإجراء تجارب عليها”.
وبيّن أنه سيتم اختيار الشريك الذي ينقل المستكشف إلى القمر خلال الأشهر المقبلة، على أن يلي ذلك الإعلان عن موعد وموقع الوصول.
وتابع: “ضمن تلك الاستراتيجية هناك القدرات الخاصة بتطوير المُعينات التي تساهم في العيش وحياة طويلة في المريخ، حيث تم إطلاق برنامج الإمارات لمحاكاة الفضاء ويتم التركيز على العلوم التي تمكن رواد الفضاء من الوصول إلى رحلات بعيدة”.
وكشف الصايغ أن هناك هدفاً كبيراً للمركز يتمثل في المشاركة في بناء محطة الفضاء القمرية، التي تشارك فيها الإمارات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكندا، والتي تتولى فيها بناء وحدة معادلة الضغط وهي الوحدة التي ستؤهل رواد الفضاء من الخروج للفضاء الخارجي والعودة مرة أخرى للمحطة.
“سنبني الوحدة لتكون جاهزة عام 2030، كما سيكون هناك رائد فضاء إماراتي كجزء من المهمة التي تُرسل الوحدة لمحطة الفضاء القمرية ليصبح أول عربي يصل القمر لإجراء المزيد من الأبحاث العلمية”، وفق حديث الصايغ.
رحلات فريدة
لعل العالم العربي عاش أجواء حماسية بالتزامن مع تقارير الإعلان عن وصول رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي إلى الأرض أواخر العام الماضي.
ففي سبتمبر الماضي، عاد النيادي إلى الأرض بعد إنجاز أطول مهمة لرائد فضاء عربي عقب مهمة فضائية مدتها ستة أشهر عندما انطلق إلى محطة الفضاء الدولية في أوائل مارس من العام ذاته على متن صاروخ SpaceX Falcon.
يشير الريس إلى أن برنامج الإمارات لرواد الفضاء جاء بعد ابتعاد العرب لأكثر من ثلاثة عقود عن مثل تلك الرحلات الفريدة، وصولاً إلى عام 2019 حين انطلق هزاع المنصوري لمحطة الفضاء الدولية كأول رائد فضاء عربي.
ثم كانت المهمة الثانية من نصيب “النيادي” الذي أجرى خلال رحلته الممتدة بأكثر من 200 تجربة علمية والسير في الفضاء، لتصبح الإمارات من حينها الدولة رقم 11 التي لديها رائد فضاء شارك في مهمة طويلة الأمد.
ودخل مصراوي إلى غرفة عمليات مركز محمد بن راشد، والذي سبق وحظي باهتمام العالم خلال متابعة رحلات “المنصوري والنيادي” إلى الفضاء، حيث تتواجد شاشات العرض المتعددة، فضلًا عن العديد من الأجهزة المتخصصة.
وعن الحلم الجديد، يقول الريس: “المرحلة المقبلة لدينا رواد فضاء يتم تدريبهم في ناسا وهما نورا المقدوشي ومحمد الملا حيث قطعا شوطا كبيرا وسيتخرجان الشهر المقبل على أن يتم إعدادهما لرحلات مقبلة”.