جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“أعطني مقشتك أيها الرجل وخذ ذلك القلم، فمنتهى أملي أن أرى أو أستعمل شيئًا له مفعول مقشتك، والمفعول أراه أمامي بعيني وأشهده وأحس بفائدته”. هكذا تحدث الراحل الدكتور يوسف إدريس في قصته “يموت الزمار” ليُدير حوارًا متخيلًا مع عامل النظافة الذي كان يراه كل يوم يعمل بنشاط وهمة أمام بيته ليرى سريعًا نتاج عمله وأثر مقشته في إيجاد النظافة والجمال في مكان عمله. وفي الخلفية من هذا الحوار كان يوسف إدريس في حقيقة الأمر يُدير حوارًا ضمنيا مع ذاته حول جدوى الكتابة، وحلم إصلاح الواقع، ودور الفكر والكلمة في تغيير الحياة والأوطان للأفضل.
وهذا يعني أن بطل هذه القصة هو يوسف إدريس ذاته، وهذه النتيجة لم أصل إليها على طريق التأويل والاستنتاج، بل عبر ما ذكره يوسف إدريس في بداية القصة عندما كتب يقول: “تقريبًا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسي أو قمت فيه بدور الراوي، كانت كلها أبدًا لم تقع لي، إلا هذه القصة، فأنا فعلا فيها الراوي، وما حدث فيها حدث لي”.
وفي هذه القصة روى يوسف إدريس بعض معاناته مع سؤال جدوى الكتابة وقيمة الكلمة في الحياة، وذكر أنه قرر في لحظة حسم باردة كالثلج لا انفعال فيها ولا تراجع أو ندم أن يكفر بإيمانه السابق بالكتابة كمعجزة قادرة على إيجاد شفاء كل وأي داء، وأن يكف عن القراءة والكتابة أي كتابة؛ لعدم جدوى الكتابة أصلًا، ليس كتابته هو فقط، بل كل كتابة مذ عرف الإنسان الكتابة، ولعدم جدوى القراءة باعتبارها الحليف الخبيث الداهية للكتابة.
والمؤكد هنا أن الراحل يوسف إدريس قد اتخذ قراره هذا بالتوقف عن القراءة والكتابة لعدم إيمانه بجدواهما في بلادنا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهو في منتصف العقد السادس من عمره، وفي ذروة مروره ببعض المتاعب الصحية التي أضعفت نبض الحياة بداخله، وجعلته يحن إلى فعل مبهج يفيض بالحياة والحركة والتغيير بعيدًا عن أوهام وسجن وسلبية القراءة والكتابة. وهو القرار الذي لم ينفذه بالفعل، وعاش ومات مثل الزمار وأصابعه تكتب وتبدع وتلعب.
لكن المفارقة الجديرة بالتأمل هنا أن تدور كل هذه الأفكار حول الكتابة والقراءة وجدواهما في ذهن يوسف إدريس، ويقرر التوقف عن القراءة والكتابة، وهو من هو في الإبداع والشهرة والعلاقات والتأثير والدور في تاريخ الأدب والثقافة المصرية! وإذا كان هذا رأي وحلم يوسف إدريس فكيف يكون اليوم رأي وحلم المشتغلين بالقراءة والكتابة والثقافة في لحظتنا الراهنة، وهم يجدون أنفسهم غير مرئيين وأبعد ما يكونون عن الفاعلية والتأثير؟