جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
ما قبل السابع من أكتوبر لا يشبه ما بعده. كل المعطيات تغيرت.
ما بدا أنه نكسة إسرائيلية على طريقة أكتوبر 1973، تحول بعد عودة ترامب إلى ما يشبه النكسات العربية في يونيو في 1967، و1982، وقبلهما في 1948.
نقصان عقل أن نجلس الآن نتجادل حول طوفان الأقصى، وجدوى هجوم السابع من أكتوبر. فيما تباد غزة برحى حرب لا تهدأ وتيرتها وتشجعها أمريكا.
هذه التقييمات والمراجعات والمحاسبات ليس موعدها الآن وإسرائيل تفعل التقتيل في غزة. لكن الأكثر غباء تجاهل تغيرات المشهد العسكري والسياسي.
والحمق أن تترك هذه الحرب مستمرة لساعة واحدة إذا كان بيد الطرف العربي في مجموعه وسيلة لوقفها. اللاءات التقليدية يجب أن تتم مراجعتها. أوراق الطاولة يجب أن يتم ترتيبها وفق الأولوية.
التمسك بـ”لاءات المقاومة” القديمة الآن قد يعني أنك تدير ظهرك للشعب وللقضية. وأكبر خطايا المقاومة أن تقع في هذا الفخ.
في المشهد العسكري الحالي، تسيدت إسرائيل عسكريا، ولهذا ثمن. وفي رسالتها الأخيرة لحماس حددت موقفها: “هذه هي لحظتكم الأخيرة. إذا لم تفرجوا عن الرهائن، فستُفتح أبواب الجحيم، تماما كما قال الرئيس ترامب”.
حملة “الضغط الأقصى” التي تمارسها إسرائيل، حدد نتنياهو لها 4 أهداف وهي إلقاء حماس سلاحها، وخروج قادتها من غزة، وضمان السيطرة الأمنية على القطاع، وتنفيذ خطة ترمب الخاصة بالهجرة الطوعية.
على الطرف الثاني من المشهد القاتم، حماس عاجزة تماما عن ردع إسرائيل. عسكريا، لا ظهير عربي أو إقليمي فاعل عسكريا. سقطت وحدة الساحات، في المعركة: ساحة الشمال أضعفت، قتل حسن نصرالله و أغلب قادة حزب الله في هجمات البيجر والاصطياد بالقصف. وفي سوريا، لا سلاح يوجه لتل أبيت حتى وهي تحتل الأراضي السورية. وقوة ساحة الجنوب أضعف من أن تشكل قوة مرجحة. وطهران خرجت من معادلة القوة مبكرا جدا، وخرجت من كل معادلة الاشتباك بقرار سياسي حتى “تتلافى الحرب مع أمريكا”.
مع وجود ترامب، الرادع العربي ضعيف لحد أنه يمكن أن نقول إنه غير موجود، فالحرب لن تكون مع إسرائيل المدعومة من أمريكا، ستكون مع أمريكا الراغبة في بعثرة خارطة العالم كله. هذه حسبة معقدة، والواضح أن لا قيادة عربية أو إسلامية أو إقليمية أو دولية مستعدة لأن تكون أول دولة عالمية تواجه شبح الحرب مع أمريكا.
مع ترامب، لا إرادة عالمية على الطاولة لوقف الإبادة. ما بعد ترامب، يختلف تماما عما قبله، والقوى العالمية تحاول مسايرته لتأجيل أي سقوط في تحرك مجنون.
في المشهد الإنساني والسياسي بالداخل الفلسطيني، الواقع بات أكثر قتامة، التقتيل لا يترك مكانا، والجوع يضرب الجميع. الضغط الحالي طرح حلولا لم تكن موجودة على طاولة المواطن الغزاوي من قبل. أضحى البعض أقرب لأي خروج آمن من غزة، وبعض التغريدات الخارجة من القطاع جرس إنذار لا يجوز إغفاله. تجاهل التظاهرات الغاضبة التي هتفت “حماس برة برة” خطيئة إضافية لـ”المقاومة”، والتعامل بالقوة القاهرة مع هذه المظاهر وقتل مواطنين من غزة في سجالات طوابير الخبز والجوع، وتطور رد الفعل لتصفية ضابط حماس الذي قتل أحدهما ثأرا من عائلة القتيل. إنذار صادح أخير “ربما ما تتمسك به الآن باسم القضية، يضر القضية أكثر مما تتوقع”.
لا يمكن التغاضي عن كل ذلك عند وضع الكروت على الطاولة. أولويات الكروت، مصلحة وطنية وحياتية للفلسطينيين.
“سلاح المقاومة خط أحمر”.. هكذا رد خليل الحية، على حملة “الضغط الأقصى” الإسرائيلية. ورغم أهمية سلاح المقاومة للقضية الفلسطينية، لكن في ظل المشهد الحالي، يجب أن تعيد حركة حماس حساباتها، هل سلاح المقاومة هو الخط الأحمر التكتيكي الذي يجب أن يقف التفاوض قبله؟ أم أنه ربما يكون التضحية التكتيكية القابلة للوضع على طاولة المفاوضات.
لم يضع نتنياهو الإفراج عن الرهائن ضمن الدوافع الأربعة لسياسة “الضغط الأقصى”، ما يعني أن المطروح حاليا للتفاوض ليس سوى خطة اليوم التالي للحرب. حدد نتنياهو عناصرها في إلقاء حماس سلاحها، وخروج قادتها من غزة، وضمان السيطرة الأمنية على القطاع، وتنفيذ خطة ترمب الخاصة بالهجرة الطوعية. وعلى حماس الآن ترتيب الأولويات وفق فقه الحفاظ على الشعب والقضية.
تاريخيا، واجهت القضية الفلسطينية أوضاعا قريبة من هذا الحال سابقا. في 30 أغسطس 1982، خرج الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات من لبنان باكيا إلى تونس لينهي حصار 88 يوما على بيروت. حصار وقتال غير متكافئ انتهى بتوقيع اتفاق بخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وتوزيعهم على الدول العربية. كانت تونس ثالث المنافي لعرفات، بعد الأردن ولبنان، لكنه عاد بعدها لفلسطين وصار أقوى.
الآن على حماس أن تقرر إذا ما كان إلقاء سلاحها وخروج قادتها تكتيكيا أكثر خطرا على القضية أم استمرار الوضع الحالي أو تنفيذ خطة التهجير.
على الطاولة ما يمكن أن تقبله الحركة على مضض لإنقاذ القضية (إلقاء سلاحها وخروج قادتها)، وما يجب أن تشترط ألا يحدث لبقاء القضية (السيطرة الأمنية والتهجير الطوعي). ولا يجوز ترك ترتيب الأولويات أو الإصرار على ترتيبها وفق مصالح ضيقة. معطيات الأرض قاسية على الشعب الفلسطيني ومهددة للقضية كلها.
“لا يفتي قاعد لمجاهد!”.. هكذا يحلو للبعض قطع الطريق على أي انتقاد أو مقاربة مغايرة لتوجهات حماس.
“لا يفتي قاعد لمجاهد!” تبدو في بساطتها مقولةَ مثالية، لكنها مثلها ككل المقولات المثالية متهافتة في الواقع. فعندما يتضرر القاعد ويدفع ثمن عجز المجاهد، لا بد من حل. وفي هتاف “حماس برة برة” الذي هز غزة جرس إنذار، أحمق من لا يتعامل معه.
لا حرب في غزة. لا طرفان حاليا. فقط إسرائيل بقوة غاشمة تعمل التقتيل، يمينا ويسارا، ولا قبل لحماس بالرد أو دفاع عن المدنيين الذين يبادون بدم بارد ودعم أمريكي وعجز عربي ودولي. في هذه الحالة، يسقط أي بريق حول مقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد”.
“لا يمكن لحر أن يلوم المقاومة”، لكن ماذا إذا كانت المقاومة هي السلطة أيضا.
لا يمكن للمقاومة أن تدير ظهرها لشعبها. في أبجديات المقاومة، حماية القضية والشعب تتصدر الأولويات. ولا يجوز المقامرة بهما لتحقيق مصلحة تكتيكية.
وعلى أرض الواقع، حماس ليست مقاومة فقط. هي سلطة أمر واقع في غزة. وأدبيات المقاومة تختلف تماما عن أدبيات السلطة. وربما كان إحلال الحركة محل السلطة الفلسطينية أكبر خطأ يعقد المشهد الحالي على حماس.
عندما تتحول المقاومة إلى سلطة، تختلف مسؤولياتها. عليها حينها أن تفكر دوما في تأثير تحركاتها على الشعب. لأن انتقام المحتل حينها لن يستهدفها فقط، بل سيتوسع في جرائمه ضد الشعب ليصعب الأمر عليها.