11:49 ص
الخميس 13 يونيو 2024
واشنطن – (د ب أ)
منذ بدايات الصعود المتسارع للقوة الاقتصادية والعسكرية للصين في بدايات القرن العشرين أصبحت العلاقات مع آسيا ككل ملفا ساخنا باستمرار على مائدة البحث في دوائر صناعة القرار والبحث الأمريكية، بعد أن وجد الأمريكيون أن نفوذ بلادهم المطلقة في هذه المنطقة عرضة للتآكل أمام تنامي النفوذ الصيني.
وقد صدر مؤخرا في الولايات المتحدة كتابا تحت عنوان “العقد المفقود: التوجه نحو آسيا وصعود القوة الصينية” شارك في تأليفه روبرت بلاكويل وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الراحل وريتشارد فونتاين الرئيس التنفيذي لمركز أمن أمريكا الجديدة للأبحاث يتحدث عن التحديات التي تمثلها الصين وتفرض على الولايات المتحدة تبني استراتيجية قوية تتمحور حول آسيا.
وفي مقال كتبه روبرت بلاكويل وريتشارد فونتاين اعتمادا على الكتاب ونشره موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي يقول الخبيران الأمريكيان إنه خلال العقد الثاني من القرن الحالي وفي ظل القيادة الحالية للرئيس شي جين بينج تعمل الصين بنجاح على تغيير ميزان القوة في آسيا وغيرها، بشكل جذري وعلى حساب الولايات المتحدة. فالتنين الصيني نجح في زيادة قوته العسكرية ويمارس القهر الاقتصادي على الدول التي تتحدى أهداف بكين، ويسعى إلى تمدير المصالح القومية الأمريكية الحيوية. والآن تستخدم الصين قوتها وإرادتها لقلب النظام الإقليمي في آسيا والنظام العالمي ككل.
وفي ظل هذه الظروف تحتاج الولايات المتحدة إلى تكريس المزيد من الجهد والوقت والموارد لصالح آسيا حتى تتمكن من علاج التدهور في التوازن الإقليمي بالمنطقة. ففي حين مازالت الولايات المتحدة منخرطة في المناطق الأخرى وتحمي مصالحها في الولايات المتحدة والشرق الأوسط، عليها تبني توجها جديدا نحو آسيا.
ويرى الثلاثي بلاكويل وفونتاين وكيسنجر في كتابهم أن التوجه الأمريكي المطلوب نحو آسيا يحتاج إلى عناصر عديدة، وبعضها أساسي ومنها زيادة الإنفاق العسكري لضمان توافر المزيد من الموارد المطلوبة لكل منطقة من مناطق العالم. فواشنطن تنفق حاليا بالكاد 3% من إجمالي الناتج المحلي على الأغراض العسكرية وهي أقل نسبة منذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن العشرين. وإذا كان استمرار دعم أوكرانيا حيوي، فالمطلوب أيضا تقوية الحلفاء في أوروبا حتى تتمكن واشنطن من نشر جزء أكبر من قواتها الجوية والبحرية في آسيا. ويمكن أن تفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه في الشرق الأوسط، فلا تتدخل إلا في العمليات الكبيرة من الحرب الدائرة حاليا بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة وفي مقدمتها حركة حماس في قطاع غزة. وفي كل من أوروبا والشرق الأوسط يكون الموقف الأمريكي الصارم أشد أهمية وأقوى تأثيرا من حجم القوة التي يمكن أن تنشرها واشنطن على الأرض.
وعلى واشنطن إحياء أجندتها الاقتصادية الآسيوية بالانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ والتي ستزيد قدرتها على النفاذ إلى الأسواق الإقليمية وتزيد قدرة هذه الدول على الوصول إلى السوق الأمريكية. وكخطوة أولى على الولايات المتحدة عقد اتفاقيات ثنائية للتجارة الرقمية مع اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، والأفضل عقد اتفاق للتجارة الإقليمية بين دول اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ككل. ومطلوب أيضا من واشنطن تخصيص نسبة أكبر من المساعدات الخارجية الأمريكية لدول منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتي تحصل حاليا على نسبة ضئيلة للغاية من هذه المساعدات. فمن بين 95 مليار دولار خصصتها الولايات المتحدة للمساعدات الأمنية الخارجية في الميزانية التكميلية لعام 2024 حصلت دول آسيا والمحيط الهادئ على 9% فقط.
في الوقت نفسه يرى بلاكويل وفونتاين أن الولايات المتحدة قوة عالمية ويجب أن تظل كذلك، وبالتالي فإن إعادة الاهتمام بآسيا لا يجب أن تكون على حساب نفوذها في مناطق أخرى من العالم.
ففي أوروبا تستنزف الحرب الأوكرانية القدرات العسكرية الروسية التي اتضح أنها ليست بالقوة المتصورة، كما أن الدول الأوروبية الحليفة لواشنطن تزيد إنفاقها العسكري وترفع قدراتها الإنتاجية العسكرية. كل هذا يتيح فرصة تارخية للولايات المتحدة لكي توجه قوتها البحرية والجوية من أوروبا إلى أماكن أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في الوقت نفسه فإنه على واشنطن مواصلة دعم حلفائها الأوروبيين في المجالات التي يعانون من النقص فيها مثل المراقبة والاستطلاع والدفاع الصاروخي وإنتاج الذخائر.
في الوقت نفسه على الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري الدائم في منطقة الشرق الأوسط، مع الاحتفاظ بالقدرة على نشر المزيد من القوات فيها عند الضرورة كما حدث بعد هجمات 7 أكتوبر لحركة حماس الفلسطينية على المستوطنات والقواعد الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة والحرب التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة منذ ذلك الوقت.
ويرى بلاكويل وفونتاين أن هجمات 7 أكتوبر الماضي أكدت الحجة المحورية لكتاب “العقد المفقود” وهي أن الوجود العسكري الدائم في الشرق الأوسط لم يمنع حماس من شن الهجمات، في حين أن الولايات المتحدة استطاعت التحرك بسرعة بنشر أعداد ضخمة من قوتها في المنطقة وكثفت نشاطها الدبلوماسي فيها. وبعد انتهاء الحرب في غزة وعودة الهدوء إلى المنطقة على واشنطن استمرار توجيه موارد عسكرية محددة نحو آسيا رغم استمرار انخراطها الدبلوماسي الكثيف في الشرق الأوسط.
وقد كان انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ فور توليه الحكم عام 2020 وانهيار هذا الاتفاق هو الذي أفرغ المحور الأول للتوجه الأمريكي نحو آسيا من مضمونه. فإلى جانب الفوائد الاقتصادية لهذا الاتفاق الذي كان يضم أكثر من 10 دول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كان يرسل إشارة واضحة غلى استمرار القيادة والوجود الأمريكيين في آسيا. وبعد انسحاب الولايات المتحدة تحركت الصين فورا لملء الفراغ الناجم عن هذ الانسحاب. وبمرور الوقت تزايد عدد دول المنطقة التي تعتمد على التجارة مع الصين والخاضعة للقهر الجيوسياسي الصيني.
لذلك على الولايات المتحدة الانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ التي حلت محل اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ واستمرار احتواء مخاطر العلاقات الاقتصادية مع الصين. فالانضمام إلى هذه الاتفاقية يتيح للولايات المتحدة الوصول إلى أسواق آسيوية ضخمة ويعطيها القدرة على تشكيل القواعد في المنطقة وفي غيرها.