جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
«هذا سؤال صعب الإجابة عليه، لكن عموما كان لدينا قصة قوية جدا، بها شحنة عاطفة قوية جدا، لدينا ممثلة رائعة في الدور الرئيسي.. والسيناريو الجيد مثل طب التشريح حيث يكون كاتب السيناريو مثل الطبيب الذي يُشخص مشكلة ما أو قضية في جسد المجتمع»… هكذا كان رد المخرج والمنتج وكاتب السيناريو البلغاري ستيفان كومانداريف حينما سُئل عن لماذا في رأيه حصل على الجائزة ولماذ أُعجب الجمهور بفيلمه «دروس بلاجا» المتوج بالكرة الكريستال – الجائزة الكبرى، وجائزة أفضل ممثلة في دور رئيسي، بمهرجان كارلوفي فاري في دورته السابعة والخمسين المقامة بين ٣٠ يونيو و٨ يوليو ٢٠٢٣.
شخصياً شاهدت الفيلم – في عرضه الأول في كارلوفي فاري – منتج بتمويل مشترك بلغاري/ألماني. حبست أنفاسي أغلب مشاهده. هنا، تحضرني مقولة جميلة لا أتذكر من قالها، لكن مفادها أن: «الحياة لا تُقاس بعدد الأنفس طوال حياتنا، إنما تُقاس بعدد المرات التي حبسنا فيها أنفاسنا.» وهذا أحد الأفلام التي يصعب جداً أن أنساها.
كان فيلم «دروس بلاجا» سريعاً، مفاجئاً، صادماً، رائعاً وصادقاً أيضاً رغم أنه مُفزع جداً. البطلة امرأة ستينية مدرسة لغة، يُضرب بها المثل في الاحترام والتفاني والأخلاق، عندما يتوفى زوجها يتوجب عليها أن تقوم بدفن رماده قبل اليوم الأربعين حتى تستقر روحه الهائمة وفق المعتقد السائد. لكن سمسار المقابر انتهازي، في كل مرة يساومها على رفع السعر، ثم تتعرض لعملية نصب تليفوني يتم الاستيلاء فيها على جميع مدخراتها. تقذف بها جميعاً لمجهولين الشرفة. يقنعها أحد المسئولين بضرورة الظهور في مؤتمر تعترف فيه بما حدث لها أمام أهل المدينة حتى يتأكدوا أن ما يتم تداوله من أخبار أمر حقيقي وليس أكاذيب للمساعدة في القبض على الجناة، لكنها تتعرض للتنمر، والكلمات الساخرة لأنها وقعت ضحية النصب، تُهان بكلمات لم تتلقها من قبل، ثم تنشر صورتها في الصحف فتنال مزيداً من السخرية.
مع ذلك، ورغم الجرح الذي تكبحه في أعماقها، وابتلاع الإهانات في صمت، لاتزال المرأة بلاجا مخلصة وفية لزوجها، ترغب في العثور على مدفن ليستقر الرماد فيه. تبحث عن وظيفة، تُرفض من جميعها لأن سنها كبير، فتبدأ في كتابة مواصفات امرأة أربعينية، تمتلك سيارة مما يتيح لها حرية الحركة، فتأتيها الموافقة على قبولها في وظيفة حيث تقوم بجمع بضائع وتسليمها من وإلي أماكن سيتم إخبارها بها لحظة إتمام العملية. منذ منتصف العملية الأولى تُدرك بلاجا أنها وقعت ضحية للمرة الثانية لنفس المجموعة التي استولت على مدخراتها، فهل تتوقف؟ هل تُبلغ الشرطة؟ هل تنقذ أهل مدينتها؟ أم يا ترى سوف تُجاري اللصوص؟ كيف تتصرف؟ وما هى العواقب في جميع الحالات؟ في إحدى اللحظات حين يسألها السمسار: لماذا؟ ترد عليه بثقة: «ليس المهم لماذا، لكني عرفت كيف تُدار الأمور.»
ينتهي الفيلم بشكل مُفجع، مؤلم، وصادم، يوحي بالتشاؤم الشديد، والحزن الشديد على مصير الأبرياء، مع ذلك تصدقه تماماً، تحبس أنفاسك طوال أغلب الرحلات التي تقوم بها البطلة خوفاً عليها، وأحياناً منها، كأنها كانت تنتقم لكبريائها الجريح وليس فقط محاولة البحث عن ثمن مقبرة لتدفن بقايا الزوج أو رماده.
إنه فيلم مطاردة، جريمة، لا تخلو مشاهده من أبعاد نفسية تُحرك البطلة دون الإفصاح عنها، وفي الأساس، طبعاً، كشف بأسلوب لماح ذكي عن الأزمة الاقتصادية المجتمعية في الثمانينيات أو بالأحرى ضحايا التحول الإقتصادي الذي مر به هذا البلد، وكان ضحيته والد المخرج وجيله حيث نُهبت مدخراتهم، ولم يكن أمامهم تأمين صحي أو مقدرة على الحياة الكريمة، أو فرصة الحصول على أبسط سبل العيش: كالخبز والسلع، وليس الحديث هنا عن أمور ثقافية أو رفاهية السفر. إنما فقط مقومات الحياة اليومية الكريمة لم تكن متاحة. من هذه المعاناة الشخصية والعامة في آن واحد خرج نص بديع يعالج الأزمة بأسلوب غير مباشر تماماً. بأسلوب فني ساحر، وقادر على جذب الجمهور. لذلك لم يكن غريباً أبداً، أن يحصل الفيلم، أيضًا، على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم المسكونية. ويرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وإن كان الإعلان عن القائمة القصيرة لفئة أفضل فيلم روائي عالمي أجنبي سيتم في ٢١ ديسمبر القادم، بينما سيتم الإعلان عن المرشحين في ٢٣ يناير ٢٠٢٤، أما الفائز فيُكشف عن اسمه النقاب ليلة حفل توزيع جوائز الأوسكار السادس والتسعون يوم ١٠ مارس ٢٠٢٤.
بالفيلم رغم قسوته، سوف تستمتع بالموهبة الأدائية الممثلة إيلي كراستيفا سكورشيفا – مواليد ١٩٥٤ – والتي أعادها هذا الدور للشاشة بعد ثلاثين عاماً من التوقف عن التمثيل، التقاها المخرج ومدير التصوير صدفة في أحد الأماكن. تعرف عليها، تحدث إليها. سألها: هل هناك إمكانية للعودة إلي التمثيل مرة آخرى.؟ أجابته: «وما المانع إذا كان هناك سيناريو جيد». في تلك اللحظة أدرك ستيفان أنه حان الأوان لأن يخرج فيلمه إلي النور، لأنه قد عثر على البطلة الرئيسية. وقد صدق حدسه ولم تخزله بطلته.
في ليلة الختام، بالحفل الساهر عقب توزيع الجوائز خطت إيلي كراستيفا سكورشيفا برشاقة وسط القاعة التي يتناثر فيها الراقصون والراقصات. مثل امرأة ثلاثينية رشيقة، بتنورة قصيرة، صعدت درجتين فقط إلى خشبة المسرح فاقترب منها المطرب الأوبرالي الرائع في تلك الليلة، همست في أذنه ببضع كلمات وعادت لتواصل الرقص. بعد أن انتهى من أغنيته، هبط المطرب إلي حيث كانت. أفسح لهما الحضور مزيداً من المساحة. إنها ليلتها. تشابكت الأيدي ورقصا معا رقصة للتانجو بنشوة الفرح والفوز، وربما نشوة العودة بعد غياب ثلاثة عقود عن الأضواء. إنها الممثلة التي كانت فتاة أحلام المخرج وجيله في الثمانينات، هكذا كان ستيفان يتندر بأسلوب ظريف أثناء حواراته في كارلوفي فاري، المهرجان الأهم والأعرق في شرق ووسط أوروبا.