– قصة / إنفوجرافيك: مارينا ميلاد
غزة، أكتوبر 2023.. رَفع البلدوزر أكوام الأتربة ليفسح المكان بأرض “البطش” في حي التفاح لأكثر من مائة جثة تنتظر أن يواريها الثرى.. وفي لفافات زرقاء تحمل أرقامًا لا أسماء؛ تراصّت أجسادهم جوار بعضها دون أن يودعهم أحد، ودون أن يبكيهم أحد.
تتوالى الأيام، ويقفز عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة بصورة مجنونة.. فيحَل وافدون آخرون عليهم، ويضيق المكان بهم أكثر.. ثم يُجرفون جميعًا بآليات إسرائيلية وتتناثر عظامهم في كل ناحية.
يأتي إليهم أشخاص يحاولون لـمْلمة بقاياهم التي تحللت واختلطت ببعضها. تضيع جثث، وتبقى بقايا أخرى.. يقف الناس حولها تائهين، لا يميزون أيًا منها، ويقولون لبعضهم: “لا نعرف هذا لمين وهذا لمين؟.. ما خلّوا حجر على حجر!”.
لاحقت الحرب هؤلاء الموتى، فتكدسوا أسفل بيوت وملاجئ وطرقات ومستشفيات، ثم هاجمتهم مرة أخرى في قبورهم، حيث “إن القوات الإسرائيلية هَدمت أو خرّبت أكثر من ألفي قبر في عشرين مقبرة رسمية وعشوائية” (وفقًا لوزارة الشؤون الدينية)، بل وأخذت العشرات منهم إلى حدودها.
ولنحو خمسة أشهر، تستمر الحرب على كل شئ، فلم يختلف معها واقع أموات غزة ومقابرهم عن واقع أحيائها ومساكنهم.. كما تروي لنا أحداثها قصة مُرعبة من داخل المقابر، لكنه رعب ليس بفعل أشباح هذه المرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الساعة تقترب من الثانية ظهرًا، تشق سيارة الإسعاف طريقها داخل أرض البطش.. وينزل منها خضر الصوراني حاملًا طرف لفافات بها بقايا جثث أسرته. يمسك المسعف أمامه بالطرف الآخر، ثم يحفران سويًا مكانًا لهم جوار مئات الجثث، ويلقيان عليهم الرمال برفق.
في الزاوية، كان أناس آخرون يدفنون أشخاصًا من أسرة “الكحلوت”.. يتحرك أحدهم باتجاه “خضر” ليساعده، ثم ينصحه بكتابة أسمائهم على “كارتونة”. فيحكي الرجل أنه “لا شواهد قبور ولا علامات بالمقبرة، فقط بضع كراتين عليها أسماء”.
لم يفعل “خضر” أكثر من تلك العلامة الهشة، “فالشهيد لا يكفن ولا يغسل”، كما يقول.
ينتهي مما يفعله، ثم يبتعد خطوات إلى الوراء للصلاة عليهم، وفي رأسه، تدور المشاهد التي جَرت حتى وصل بهم إلى هنا.
فقبل 13 يومًا من تلك اللحظة، بلغ “خضر” نبأ استهداف سيارات المدنيين، وبينهم أفراد من أسرته، أثناء نزوحهم إلى الجنوب على طريق صلاح الدين، الرابط شمال غزة بجنوبها.. هذا الطريق الذي وجهت إسرائيل المدنيين له باعتباره “آمنًا”.
وطوال تلك الأيام، ذهب للإسعاف أكثر من مرة طالبًا المساعدة في إنقاذ جثثهم. لكن كان يأتيه الرد بالرفض بحجة “أن ذلك جزء من عمل وحدة الجثث المتحللة بوزارة الصحة”، وهم غير موجودين بمكان عملهم منذ بداية الحرب، كما يحكي “خضر”.
كان المسعفون يعرفون أنه لا أحد يمكنه الاقتراب من الجثث الملقاة على الطريق، فالدبابات الإسرائيلية تحاصرها.. حتى وافق أحدهم على مساعدته والقدوم معه حين هدأت الأجواء قليلًا بأول أيام الهدنة.
ذهبا معًا، ومَشي “خضر”، وهو كاتم أنفاسه، وسط جثث مشوهة تمامًا بقيت مكانها لأيام حتى تعفنت.. يصف المنظر بـ”المفجع”، لكنه تحمله حتى عثر على أسرته واتجه بها إلى مقبرة البطش لدفنها.
يَمسح “خضر” دموعه، وهو واقف أمام المقبرة، محاولًا أن ينسى ويغفل ما حَدث ولو قليلًا، ثم يغادر أرض البطش، وهو يتحدث عن “أنه أسوأ يوم بحياته!”.
يظن الرجل أن موتاه استقروا هكذا، ولم يخطر في خياله حتى ما سيحدث لهم بعد ذلك.
على بُعد نحو 30 كــم من أرض البطش، لم يكن موتى الجنوب أيضًا في مأمن، فهم محاصرون ويُدفعون نحو مقابر جماعية عشوائية. وفي ليلة شديدة الظلمة، كان أسامة الكحلوت (مسؤول غرفة الطوارئ بالهلال الأحمر الفلسطيني) يركع على ركبتيه، ليكفن ثلاثة منهم، وهم زملاؤه.. ثم ينزلهم بحَفره صنعها بمستشفى الأمل في محافظة خان يونس، حيث نزح منذ بداية الحرب.
تمتد الجثث أمامه صفًا تلو الآخر داخل مستطيل صغير. يمهد “أسامة” التربة فوقهم، ويخفي ما يبدو من حزن على وجهه وراء “الكمامة” التي يرتديها. فهو مجبر على هذا الفعل بعدما وصلت عدد الجثث بالمستشفى لـ26، انبعثت روائحها، ولا يوجد ثلاجات لحفظها. إضافة إلى أن القوات الإسرائيلية تمنع أي شخص من الخروج بمن فيهم الإسعاف، وقد أطلقت النار على من حاول الدخول.
كان “أسامة” يخشى عليهم من نهاية 100جثة؛ ظلت لأيام بمستشفى الشفاء تحت أغطية حتى تحللت ببطــء ونهشتها الكلاب قبل دفنها بحديقة المستشفى، وكذلك من مصير عشرات جثث أخرى قضت لياليها بشاحنات مواد غذائية وآيس كريم، كما حَدث بمستشفى شهداء الأقصى بدير البلح.
وعلى هذا الحال، ينهي عملية الدفن.. يلتقط أنفاسه ثم يقول: “قررنا أن نحفظ ما تبقى من كرامة الميت، وندفن بشكل شرعي وإنساني”.. يصمت لـ10 ثوانٍ، ويكمل: “الحقيقة لا.. أن يدفن أحد في غير مكانه الطبيعي هذا غير إنساني بالمرة”.
وبالمثل، دُفنت أسرة “أسامة” (الكحلوت) بمقبرة البطش. لكن هذه الطريقة المتبعة بالمقابر الجماعية قد تلحق ضررًا بالسكان، كما يذكر كل من منظمة الصحة العالمية والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في وقت سابق. فيسمونها بـ”سوء إدارة الجثث”، وفي رأيهم “ستسبب اضطرابات نفسية طويلة الأمد لأفراد العائلات، ومشاكل اجتماعية وقانونية”. ولو اقتربت الجثث من مرافق إمدادات المياه سيسبب ذلك مشاكل صحية، لأنها تُخرج برازاً وتلوث مصادر المياه (حسب بيان المؤسسات الثلاث).
وفي أغلب الحالات، لم يتوفر لسكان غزة وموتاهم شيء مما تذكره المؤسسات.. فيحاول “أسامة” جاهدًا أن يحمي نفسه وفريقه قدر المتاح، كما يقول.. وفي نفس الوقت، لابد أن يفعل كل شئ بسرعة قبل إطلاق النار عليه.
فهو يدفن بساحة مفتوحة تحت مرمى الطيران الإسرائيلي. وقد تم إطلاق الرصاص من قبل أكثر من مرة.. فيقول وهو يكتب الأسماء على الأكفان، ثم يسجلهم في دفاتره: “ماذا سنفعل؟.. هل نترك الجثث في العراء؟!”.
يلتفت “أسامة” ثم يشير إلى 8 آلاف نازح حوله، ويواصل حديثه: “نحن جميعًا في خطر دائم.. ننظر إلى تلك المقبرة ونعلم أنه في أي لحظة يمكن أن نرقد جوارهم”.
https://www.youtube.com/watch?v=RqxJ2TBNIEE
وعلى طول شريط غزة الممتد لـ41 كم، تتكرر مشاهد المقابر الجماعية، ويتكرر ما يفعله “أسامة” مع آخرين. فإسرائيل ألقت عليه أكثر من 10 آلاف قنبلة وصاروخ، ومئات الغارات الجوية (حتى يناير 2024)، لتقتل بهم قرابة الثلاثين ألف شخص، وتترك نحو آلاف آخرين عالقين تحت الأنقاض.
ومثلما تتحدث حروق المصابين العميقة عن نوعية أسلحة إسرائيل، وتتحدث المباني التي تنهار في لحظة كأنها لم تكن، تتحدث الجثث أيضًا، “فتأتي متفحمة ورائحتها كريهة جدًا، وبها غازات سامة لا يستطيع أحد تحملها”، كما يقول ياسر خطاب (أحد موظفي مستشفى شهداء الأقصى).
فتخبرنا أن “إسرائيل أخرجت كل ما في جعبتها لأجل هذه الحرب، وأغلبها قادم من الولايات المتحدة”، وفقًا لخبراء ومحللين عسكريين.
بمرور الأيام، اكتظت مقبرة البطش بضحايا تلك الأسلحة. هـكذا وجدها خضر الصوراني حين ذهب لزيارة أسرته.. تلك العادة التي يُفضلها سكان غزة، فيدفنون موتاهم بمقابر قريبة.
وحين مَضى بين المقابر، لم يتخيل أن ذلك المكان الذي كان يخص 18 فردًا فقط بات يضم كل هذا الكم الهائل من الموتى.
الغريب أن قصة تلك الأرض ربما لم تنفصل عن قصة “خضر” نفسه، فكـما بحث عن أي مساحة فارغة لدفن أسرته بها، بحثت أيضًا عائلة البطش قبل 9 سنوات.
كانت ليلة من أيام شهر رمضان (عام 2014)، وكان بيت عائلة البطش مُزدحمًا وصاخبًا.. فالنساء يُلمْلمن الطعام، والأطفال يلعبون خارجه، والرجال يُصلون التراويح.. وإذ بقصف عنيف يضربهم دون سابق إنذار.. فتتحول أصوات الصلاة واللعب والحكي إلى دويّ سيارات الإسعاف تركض خلف بعضها.
قضى القصف على 18 فردًا من عائلة البطش، تتراوح أعمارهم بين 13 – 59 عامًا، وأصاب آخرين.
ذهب الناجون من العائلة بهم إلى مقبرة الحي، والطائرات الإسرائيلية تحوم فوقهم.. تصل معهم في نفس الوقت عائلة “رجب” في سيارة نقل تحمل جثة ابنهم، الذي قُتل في غارة أخرى على سوق الشجاعية.
يستقبلهم عبد كشكو (أحد المتطوعين للعمل في المقبرة). فيصدمهم بقوله: “لا يوجد قبر لهذا الشاب. ستنتظرون طويلًا حتى نجد قبرًا فارغًا له”. ليرد أحد أفراد العائلة غاضبًا كأنه يُحدث نفسه: “في غزة لسنا قادرين على أن نعيش بكرامة، ولا قادرين على أن نموت بكرامة. لا مكان لنا فوق الأرض ولا تحتها”.
تعرف عائلة البطش حينها أنه لا مكان لموتاها هنا.
فلم يجد موتى غزة حينها أي قبور فارغة لهم. فالمقبرة الوحيدة التي بوسعها استضافة بعضهم، هي المقبرة الشرقية الواقعة على الحدود، والتي تشهد تقدمًا للدبابات الإسرائيلية وقصفًا مدفعيًا، فلا يمكن لأحد الوصول إليها.
ربما كانت تلك الأزمة الأولى التي تواجه الموتى بهذا الشكل.. والسبب تحدث عنه رمزي النواجحة (مسؤول دائرة الإعلام في وزارة الأوقاف آنذاك)، حين قال في تصريحات له: “لا يوجد لدينا مواد بناء لإنشاء قبور جديدة”.
فحظر مواد البناء هو جزء من قيود فرضتها إسرائيل على غزة بعد حصارها منذ سيطرة حماس عليها عام 2007. وحتى بعض المواد التي تستثنيها وتسمح بدخولها، يقول مسؤولون في الأمم المتحدة، “إنها ستستخدم في إنشاء مدارس، ومساكن، ومنشآت خدمية”.
وفي ظل حروب ثلاث خاضتها غزة، كان ذلك منطقيًا إلى حد ما.. فقد تضررت آلاف المساكن والمرافق في بلد صغير مكتظ بأكثر من 2 مليون نسمة.
كل ذلك لم يجعل لبناء المقابر أولوية.
وعليه، لم يعد هناك حل أمام الموتى سوى “أن من له قريب في أي قبر، يستقر جواره”.
لكن عائلة البطش لم تفعل. وقررت حفر مقبرة خاصة بأرضهم. فيقول أبو الهيثم البطش حينها: “الاحتلال قتل أبناءنا مرتين، الأولى حين دمر المنازل بأكملها عليهم وحوّل جثثهم إلى أشلاء، والثانية بحرماننا من دفنهم في مقبرة رسمية شرعية وفق الدين”.
وبعد 9 سنوات، تتسع نفس الأرض لمئات الغرباء كأسر “خضر الصوراني” و”الكحلوت”، ويجاورون موتى عائلة البطش. عندما قررت العائلة التبرع بجزء من أرضها لعمل مقبرة جماعية بعد أن تدفق الموتى خلال حرب فاقت في بصماتها وعدد ضحاياها كل سابقيها.
بعد أسابيع قليلة، تفاجئ آليات إسرائيلية موتى مقبرة البطش بزيارة غير مرغوب بها.. تقلقهم، تمر فوق رؤوسهم، وتُخرجهم من أماكنهم. وبالتزامن وعلى مقربة منهم، يذكر معتز حرارة (الطبيب بمستشفى الشفاء) “أن عند اقتحام الجيش الإسرائيلي مستشفى الشفاء قاموا بسرقة جثث أيضًا”.
صار المكان مخيفًا بحق. ولأن خضر الصوراني من الساكنين في محيط مستشفى الشفاء، فهو محاصر ولا يمكنه الخروج والذهاب ليتأكد ما حدث لأسرته.. فيقول: “أشعر بعجز وظلم وذل وعدم مقدرة لفعل أي شيء”.
أسرة خضر الصوراني و”الكحلوت” ربما لم يعرفا بعضهما البعض في حياتهم. ولكنهم دفنوا جنبًا إلى جنب بمقبرة البطش وتعرضوا للهجوم معًا. ظل “أسامة” مصدومًا مما حدث لأسرته، ومن الأخبار المتتالية عن تدمير مقابر في المناطق التي تم اجتياحها بريًا، فيقول: “نعيش وضع كارثي، لا يمكنني وصفه، فما يحدث لنا خارج المنطق والطبيعة”.
تُكمل صور الأقمار الصناعية الصورة؛ إذ يبدو منها أن عددًا من قبور غزة لم تبق على حالها، فالترب مقلوبة والشواهد مُحطمة في ما لا يقل عن 5 مواقع دفن من شمال المدينة إلى جنوبها.
ما جرى لهؤلاء الموتى وقبورهم يعتبره القانون الدولي، حسب خبراء، “انتهاكًا واضحًا ما لم تكن له ضرورة عسكرية، ويمكن أن يرتقى إلى مستوى جرائم حرب”. وتقول جانينا ديل (المديرة المشاركة في معهد الأخلاق والقانون والصراع المسلح بجامعة أكسفورد) في تصريحات لها، “هناك معنى رمزي كبير لفكرة أنه حتى الموتى لا يُتركون في سلام.. فالقانون الإنساني الدولي يحمي كرامة الأشخاص الذين هم خارج القتال، وهذه الحماية لا تنتهي عندما يموتون”.
ويبرر الجيش الإسرائيلي ما يفعله بحق الموتى بأنه “لا يستهدف المقابر وأنها مثل أي مواقع أو مبانٍ مدنية أخرى، يمكن أن تتعرض لأضرار خلال الحرب”.
وفي قول آخر لمسؤوليه: “فهو يبحث عن جثث رهائن. وحين يتم تحديد أنها لا تخصهم تعاد بكرامة واحترام”.
وفي صباح أحد أيام ديسمبر الماضي، عـاد 80 جثمانًا من هؤلاء إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم الحدودي، ليدفنوا بمقبرة جماعية في رفح.. ذلك بعدما أخذتهم إسرائيل من مشارح مستشفيات ومقابر جماعية، كما تذكر مصادر في وزارة الصحة في غزة.
تبعهم بنفس الطريقة 100 جثة أخرى مجهولة الهوية.
وبدلًا من أن تنتهي قصتهم عند هذا الحد، فتتهم حكومة حماس، الجيش الإسرائيلي، “بأنهم جاءوا مشوهين وتمت سرقة أعضائهم”. كما دعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وهي منظمة مستقلة، إلى تشكيل لجنة دولية للتحقيق في احتجاز تلك الجثث. فقد وثق أن ذلك حدث بمجمع الشفاء الطبي في غزة، والمستشفى الإندونيسي، وممر النزوح على طريق صلاح الدين الرئيسي.
بل وذهب في تقريره إلى ملاحظات أدلى بها أطباء في غزة أجروا فحصًا سريعًا لبعض الجثث بعد الإفراج عنها “ولاحظوا سرقة أعضاء مثل قرنية العين وقوقعة الأذن، وأعضاء حيوية أخرى مثل الكبد والكلى والقلب”.
هذا ما استدعى مسألة بنك الجلد الإسرائيلي القديمة مجددًا. وهو نظام تخزين تم عمله منذ عام 1986 لحفظ عينات من الجلد المقدمة من متبرعين، ليتم استخدامها في عمليات ترقيع أو زراعة الجلد. ويشرف عليه قطاع الطب العسكري.
ولأكثر من مرة، يذكر الإعلام الإسرائيلي عبر القنوات، “أن بعض خبراء الطب الشرعي انتزعوا أعضاء بشرية من جثامين موتى فلسطينيين وعمال أجانب دون إذن عائلاتهم”.
ووسط كل ذلك، لا يعرف “خضر” أو “أسامة” أو غيرهما شيئا عن أسرهما.. هل هم بين هؤلاء العائدين؟ أم مازالوا في أماكنهم؟، وهل جثثهم كاملة أم لا؟.. فقد ابتعد موتى غزة عن أسرهم الأحياء، تفرقوا بين أنحاء غزة واختلطوا، وبعضهم عَبر الحدود.
تتجلى هنا مأساة جديدة لتلك الحرب تترك آثارها على نفس خضر الصوراني، صاحب الـ30 عامًا، فيقول: “تأثير عملية الدفن وما بعدها جعلني لأول مرة أقرر أن أترك البلد.. فلم أعد أتحمل!”.. كذلك أسامة الكحلوت، فرغم تجاوزه سن الأربعين وأنه أمضى نصف هذا العمر مع الهلال الأحمر، وكان أكثره بالنزاعات والجنازات، فيرى “هذه الحرب هي الأصعب والأكثر مرارة”.
فيتكلم والحزن يغلبه: “لم أتوقع ما عشته بها حتى في الخيال.. لا يمكن تخيل رؤية قبر في شارع، ساحة سوق أو ساحة مستشفى!”.
قبل أيام، فرّ “أسامة” مجبرًا من مستشفى الأمل الذي نزح إليه لأكثر من 114 يومًا، وترك المقبرة الجماعية ومن فيها وحدهم.. واتجه لمدينة رفح الفلسطينية.
الآن، يجلس بأحد الملاجئ على أطراف المدينة، يفكر بهم، يخاف أن يلحقوا بموتى المقابر الأخرى. ثم يعود بذاكرته لحديث أسرته قبل فترة عن “أنهم يتمنون نقل جثث أقاربهم من مقبرة البطش الجماعية بعد انتهاء الحرب لمقابر قريبة منهم، ويدفنون بشكل لائق”.
وقتها قال لهم: “لا نعلم هل سيكون ذلك متاحًا أم لا، لكن بالتأكيد الأولوية للمدفونين ببيوت وطرقات”.
يتذكر ذلك ويبتسم نصف ابتسامة لا تنمّ إلا عن ألم كبير، ويقول: “الآن أتمنى فقط أن يكونوا في أماكنهم”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– الصور: الهلال الأحمر الفلسطيني بغزة
– الرسوم مصممة بتقنيات الذكاء الاصطناعي
اقرأ أيضًا:
أيام الموت.. عِش تجربة نزوح أسرة في غزة (قصة تفاعلية)
برج فلسطين.. إسرائيل تغتال 30 عامًا من حياة غزة