جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“أنا لي عمر حريص عليه، أنا وصلت للسن الحرجة، أنا شاب، أديب شاب”.
هكذا تحدث شاعر القصة القصيرة الراحل يحيى الطاهر عبدالله في حديث صحفي -هو الأول والأخير- أجراه مع الدكتور سمير غريب، ونُشر بمجلة المستقبل في باريس في أوائل عام ١٩٨١.
وتشاء الأقدار أن يرحل يحيى الطاهر عبد الله فجأة عن دنيانا بعد ثلاث شهور من إجراء هذا الحوار يوم ٩ أبريل ١٩٨١، إثر حادث أليم على طريق القاهرة الواحات في الثالثة والأربعين من عمره، وهو في قمة عطائه ونضجه الإنساني والفكري والأدبي.
وأظن أن تلك من مفارقات القدر في حياة بعض البشر عامة، وحياة يحيى الطاهر عبدالله خاصة؛ ففي المرحلة التي بدأ يحيى الطاهر يشعر فيها بقيمة الحياة، وبسرعة جريان العمر، وحتمية التركيز على موهبته الأدبية، وقول كلمته، وإكمال طموحه ومشروعه الأدبي، مات!
و”لو قدر لذلك الفتي الأسمر النحيل، يحيى الطاهر عبدالله أن يعيش عمراً أطول من العقود الأربعة التي عاشها، لكان له على الأرجح، شأن لم يسبقه إليه كاتب في أدبنا الحديث”، كما قال الشاعر الراحل حلمي سالم؛ لكن القدر لم يمهله لتحقيق ذلك، وجعل نهايته ذات طابع أسطوري مثلما كانت شخصيته وحياته وكتاباته.
وقد أحدث رحيل يحيي الطاهر عبد الله المفاجئ صدمة قوية في الوسط الثقافي والأدبي المصري، وترك إحساسًا عميقًا بالفجيعة لدى أصدقائه ورفاق دربه وأبناء جيله، من أمثال عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وجار النبي الحلو ومحمد إبراهيم مبروك.
فكتب عبد الرحمن الأبنودي قصيدة عنوانها “عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله””، قال فيها:
يا يحيى يا عجبان يا فصيح
يا رقصة يا زغروتة
اتمكن الموت من الريح
وفرغت الحدوتة.
وعندما كتب أمل دنقل في مرضه آخر قصائده “الجنوبي”، استحضر يحيى الطاهر عبدالله داخل القصيدة ليرثيه، وهو يرثى أيضًا بشكل ضمني ذاته، فقال:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً
بينما ينحني القلب يبحث عما فقد.
لكن أجمل وأصدق وأسرع ما قيل في رثاء يحيى الطاهر عبد الله، جاء من الأديب الكبير الدكتور يوسف إدريس، عندما كتب مقالًا بعنوان “النجم الذي هوى”، أنشره هنا كاملًا؛ لأن الدكتور يوسف إدريس لم ينشره بعد ذلك في أي من كتبه، ولأنه في حد ذاته قصة قصيرة من إبداع العظيم يوسف إدريس تُلخص حياة يحيى الطاهر عبد الله القصيرة العميقة الصالحة لإثارة الدهشة والوجع.
وهذا نص ما كتبه الراحل يوسف إدريس:
“حين رأيته كان قادما لتوه من أقصى الصعيد من قرية الكرنك بجوار الأقصر، وكان نحيلا كعود القمح، حلو الحديث والمعشر كعود القصب, فنان القامة والبنية واللمحة، مع ذلك الخجل الصعيدي الشهم الذي لا تخطئة العين.
قابلني في قهوة ريش أيام كانت مركز الإشعاع للفن, وقال: أنا أكتب القصة القصيرة.
قلت هات أقرأ؛ فأنا لا يسعدني شيء في العالم قد أن أقرأ قصة قصيرة كاتبها فنان قصة قصيرة.
وتصورت أنه سُيخرج لي ظرفًا فيه عشرات مما كتب، وإذا به يعتدل وتأخذ سيماه طابع الإتصال العلوي ويُلقي علينا قصته الأولى وكأنها الشعر يحفظه قائله.
وفعلا ومن أول سطر عرفت أني أمام كاتب قصة وليس أي قصة، قصة جديدة طوع لها شاعرية الوجدان المصري الذي حمصته شمس الصعيد، جديدة الموسيقى، جديدة اللغة، جديدة الموضوع، بل وأكاد أقول ليست مصرية فقط ولكنها أنغام صعيدية عالمية تمامًا.
فرحت به كالكنز، أخذت منه القصة الأولى, ونشرتها في مجلة الكاتب، وقلت كلمة ألفت بها الأنظار التائهة إلى الظاهرة إلى يحيى الطاهر عبدالله.
أول الأمس وبحادث لا معنى له بالمرة أصيب ومات يحيى الطاهر عبدالله ولم يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا.
كتب ثلاث مجموعات من عيون القصة العربية الحديثة، وتزوج وخلف بنتين: وبالكاد بدأ يتنفس الصعداء، وإذا بهذا الغادر الملعون ودونا عن ركاب عربة انقلبت وكان بها ثمانية غيره -متعهم الله بالصحة وأطال في أعمارهم- اختطفه، فعلا وكما تنطق حكمة الشعب المصري أحيانا بالحقيقة، كان ابن موت.
الموت .. ذلك القضاء الحق الذي لا معنى له بالمرة.
مات يحيى، هكذا نعاه لي الأبنودي في منتصف الليل، ووجدت نفسي كالأطفال أبكي عجزًا؛ فها هو كاتب عملاق شاب آخر قد اغتيل، والقاتل موت ملعون مبكر ولا حولا ولا قوة إلا بالله.
يا شعبنا المصري الطيب، يؤسفني أن أنعي إليكم واحدًا من أنبغ كتابنا، ربما لم تعرفوه إلى الآن كثيرًا، ربما لم يكن حديث الناس كنجوم السينما، لكني متأكد أنه سيُخلد في تاريخ أدبنا خلود لغتنا وحياتنا.
وعزاء لك يا حركتنا الأدبية الكثيرة العدد القليلة النوع”.