جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
السلطة الحاكمة في كل زمان ومكان لها منطقها الخاص في التفكير والحكم وتحديد معايير اختيار وتقييم الرجال الذين يعملون في خدمة مشروعها وأهدافها التكتيكية والاستراتيجية، ويتوافقون في ذات الوقت مع شخصية ورؤى وغايات الحاكم.
هذا هو الدرس الأول الذي يتعلمه الإنسان من قراءة كتاب “السادات الذي عرفته” للكاتب الصحفي الراحل الأستاذ عبد الستار الطويلة، وهو كتاب مهم جدير بالقراءة لأنه يفتح لقرائه آفاق ونوافذ كثيرة لفهم شخصية وفكر وأسلوب الرئيس السادات، وفهم منطق السلطة الحاكمة في أغلب الأحيان في التفكير والعمل وتحديد معايير اختيار وتقييم الرجال والأفكار السياسية والإصلاحية.
بدأت علاقة الأستاذ عبد الستار الطويلة بالرئيس الراحل أنور السادات بعد أن ألف كتابه الشهير “حرب الساعات الست” عن نصر أكتوبر المجيد، وبعد أن استدعاه الرئيس السادات لمناقشته في بعض تفاصيل الكتاب، لتنشأ بينهما علاقة وثيقة استمرت لعدة سنوات، قبل أن يغضب الرئيس السادات على عبد الستار الطويلة ويسحب تصريحه الصحفي لدخول رئاسة الجمهورية، ويبعده عنه تمامًا بعد أحداث يناير 1977، الذي اتهم الرئيس السادات اليسار المصري بالتحريض عليها أو عدم الدفاع عن موقف وقرارات الرئيس السادات فيها.
ولكونه صحفيًا يتميز بتكوين معرفي عميق وحس صحفي مميز، فقد استغل الأستاذ عبدالستار الطويلة فرصة قربه من الرئيس السادات لمعرفة أسلوب الرئيس السادات في الحكم، وفهم طباعه الشخصية، وتحديد أثرها على قراراته المصيرية وعلى بعض مواقفه وخياراته الحاسمة في حكم مصر.
كما جعل الأستاذ عبد الستار الطويلة من صلته بدوائر الحكم العليا في تلك الفترة التاريخية فرصة عظيمة لدراسة فكر ومنطق السلطة الحاكمة في مصر، ومعرفة كيف تأخذ قراراتها، وسبل وآليات ممارسة حكمها، متخذاً من ذلك كله موقف المتأمل الدارس والمقارن بين ما رآه ولمسه عن قرب في أعلى مستويات السلطة في مصر وبين ما قرأه عن الدولة ووظيفتها ورجالها في دول أخرى وعبر تاريخ المجتمعات الإنسانية.
نقاط إنسانية وسياسية عديدة تحدث عنها الأستاذ عبد الستار الطويلة في كتابه، تخص الرئيس السادات وأسلوب حكمه، ونوعية رجال الحكم والمساعدين الذي يفضل العمل معهم، لكني سوف أقف في هذا المقال على نقطتين فقط منهما.
النقطة الأولى، تتعلق بالرئيس السادات ذاته، الذي أخبره أكثر من مرة أنه لم يكن يحلم بمنصب رئاسة الجمهورية وحكم مصر، وأن هذا الأمر جاءه هبةً من الله. وقول عبد الستار الطويلة عن الرئيس السادات أنه كان إنسانًا متواضعاً وشخصية بسيطة تجيد التواصل مع الناس، وفهم احتياجاتهم ودوافعهم، والتعامل مع كل فئات البشر بما يتناسب معهم، وكان يجمع في هذا بين حكمة وبساطة ولاد البلد وبين خبرة ودهاء السياسي القدير القريب من الناس.
أما النقطة الثانية الأكثر أهمية فتتعلق بموقف الرئيس السادات السلبي من “المثقفين” أو من كان يطلق عليهم اسم “الأفندية”، ونقده الشديد لهم لبعدهم في كتاباتهم وكلامهم وشعاراتهم عن الواقع، وهو الموقف الذي يتضح لنا من الحوار التالي الذي دار بين الرئيس السادات والأستاذ عبد الستار الطويلة:
– الرئيس السادات: الحكم له فن وضرورات لا يعرفها من هو في خارج الحكم والأفندية اللي زيك.
– عبد الستار الطويلة: لماذا تُسمى المثقفين بالأفندية؟
– الرئيس السادات: لأنهم منعزلون عن الواقع، المثقف مش حاجة عيب بالعكس، يمكن أن يفيد بلده بثقافته. ولا يمكن للحاكم أن ينجح إلا إذا كان مثقفًا، ما أنا قرأت في السجن قد شعر رأسي كتب، لكن الواحد لا ينسى الطين الذي تربي فيه، ولهذا لازم تعرفوا الحقيقة، مش الشعارات والكلام الكبير بتاعكم ده، ما أنا أقدر أقول كل يوم وكل ساعة الاستعمار والإمبريالية، والتناقض في صفوف الشعب، والهلمة دي كلها ثم ماذا؟!
وأظن أن موقف الرئيس السادات من المثقفين أو الأفندية، ونقده انفصالهم في كتاباتهم وأقوالهم وشعاراتهم عن الواقع، هو ذاته موقف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي لخصه -على سبيل الاستنتاج- الراحل الأستاذ يحيى حقي في روايته “صح النوم”، عندما جعل “الأستاذ” حاكم القرية الجديد الذي يرمز في الرواية للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، يتحدث عن مثقف القرية متسائلاً: “من هو.. آه.. هذا الصامت السارح؟ ليس لي وقت أضيعه معه ومع أمثاله، إنني أريد رجل عمل لا بُطانة سمار”.
وهذا الموقف السلبي المُتوارث لدى السلطة الحاكمة في مصر من المثقفين، والذي عرض له الرئيس السادات بصراحة في حواره مع الأستاذ عبد الستار الطويلة، وعرض له بشكل ضمني عند الرئيس عبد الناصر الأستاذ يحيى حقي، يطرح علينا عددًا من الأسئلة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، منها:
– هل هذا الموقف السلبي من السلطة تجاه المثقفين له مصداقية، ويملك ما يُبرر وجوده في الواقع؟
– هل يُمكن تغيير الصورة الذهنية السلبية للمثقفين التي ترسخت في ذهن سلطات الحكم المتعاقبة في مصر؟
– ما هو السبيل لتجسير الهُوَّة العميقة بين رجل الفكر والخيال ورجل العمل في بلادنا، بين المثقف والسياسي، بين هاملت المتردد قليل الفاعلية، وبين الشاب المحارب فورتينبراس أمير النرويج القوي ورجل الواقع والعمل؟
ودافعي الرئيس لمناقشة هذا الموضوع وطرح هذه التساؤلات هو يقيني الشخصي المؤسس على دراسة تجارب التاريخ والمجتمعات المتقدمة، أن المجتمع السوي ونظام الحكم الذي يسعى للتطور والتقدم، لا بد أن يُقيم فضاءً للتواصل والحوار والتفاعل بين المثقف الوطني وبين السياسي ورجل الدولة الوطني؛ لأنهما معًا ركيزة تقدم المجتمع والدولة؛ فالمثقف يملك الفكر والمعرفة متعددة الأبعاد والوعي التاريخي والخيال، والسياسي ورجل الدولة يملك الإرادة وأدوات السلطة والمعلومات والرؤية الواقعية التي تمكنه من التأثير العميق وإحداث تغيير وتقدم فعلي في الواقع.