07:37 م
السبت 18 يناير 2025
الوادي الجديد – محمد الباريسي:
تقع واحة باريس على بُعد 90 كيلومترًا جنوب مدينة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، تمتد هذه الواحة بجمالها الطبيعي وتاريخها العريق، وتعد شاهدًا حيًا على اندماج الحضارات القديمة منذ الفراعنة وحتى العصر الإسلامي، تتميز باريس بكونها واحة خالية تمامًا من مصادر التلوث، ما يجعلها أكبر مشتى طبيعي في العالم.
أصل اسم باريس
وكشف الخبير الأثري بهجت أحمد إبراهيم، مدير الآثار المصرية السابق بالوادي الجديد، تعدد الروايات حول أصل تسمية باريس، إلا أن المؤكد هو أن الاسم يرتبط بجذور تاريخية عميقة، هناك من يعتقد أن اسمها مشتق من الكلمة الهيروغليفية “بارسو” التي تعني الأرض الجنوبية، فيما يرى آخرون أنها مستوحاة من “بر إست” أي بيت إيزيس، نسبةً إلى معبد دوش المخصص لعبادة الإلهة إيزيس والإله سرابيس، كذلك أشار القاموس الجغرافي المصري إلى أن الاسم الأصلي كان “إريس” وتحول عبر الزمن إلى “باريس”.
أضاف بهجت، أن الروايات التاريخية تضمنت أيضًا القائد الفارسي بيريز الذي عسكر مع جيشه في الواحة خلال محاولته الفاشلة لتدمير معبد آمون بسيوة، حيث هلك جيشه بسبب عاصفة رملية في بحر الرمال العظيم، ليُدفن هو وجيشه تحت الرمال.
مأساة قمبيز وجيشه
أشار بهجت، إلى أنه من الحكايات المثيرة التي ارتبطت بباريس، قصة الملك الفارسي قمبيز الذي زحف بجيش قوامه 50 ألف مقاتل من طيبة إلى واحة آمون بسيوة، وأثناء عبورهم منطقة بحر الرمال العظيم، هبت عليهم عاصفة رملية عاتية قضت على الجيش بالكامل، هذه الحادثة، التي تنبأ بها كهنة آمون، ظلت درسًا للحكام اللاحقين واكتسبت الواحة مكانة خاصة في التاريخ.
محطات تاريخية
يقول فرحات شعيرة، وكيل هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد السابق، إن واحة باريس كانت مزدهرة اقتصاديًا خلال العصرين الفرعوني والروماني، حيث جرى استخدامها كطريق تجاري يربط مصر بالسودان عبر درب الأربعين. وتضم باريس عيونًا مائية رومانية لا تزال تتدفق ذاتيًا من باطن الأرض، وهي شاهد حي على النهضة الزراعية والعمرانية التي عاشتها الواحة قديمًا.
“العصور القديمة تركت بصمتها هنا”، وفقًا لفرحات شعيرة، الذي أشار إلى أهمية باريس في العصر الفارسي، حيث أُغلقت طرق التجارة بين مصر والسودان بفعل الصراعات السياسية، مما أدى إلى أزمات اقتصادية دفعت كهنة آمون للتنبؤ بكارثة حلّت بجيش قمبيز أثناء محاولته الوصول إلى سيوة.
كنوز لا تقدر بثمن
أكد الأثري محمد إبراهيم، مدير الآثار المصرية بالوادي الجديد، أن باريس تعد موطنًا لمجموعة من المعالم الأثرية البارزة، أبرزها:
• معبد دوش: يقع على بُعد 23 كيلومترًا من الواحة، شُيّد في العصر الروماني لعبادة الإلهة إيزيس.
• قلعة دوش: تحفة معمارية من الطوب اللبن، تتألف من أربعة طوابق وتعود إلى العصر اليوناني.
• كنيسة شمس الدين: بقايا أثرية تعود إلى القرنين الخامس والسادس الميلادي.
• طابية الدراويش: خمس طوابٍي للدفاع عن الواحة ضد الهجمات الخارجية.
• المكس القبلي: مدينة أثرية من الطوب اللبن تعود إلى العصر الروماني.
حياة سكان باريس
“الواحة كعائلة واحدة”.. هكذا وصف عبد الحميد منصور، عضو مجلس الشعب الأسبق، واحة باريس، تضم الواحة حوالي 22 ألف نسمة، وينحدر أغلب سكانها من أصول تمتد إلى السعودية وصعيد مصر، لا تزال التقاليد القديمة حاضرة في حياتهم اليومية، مثل تقديم العريس الحبوب والزيت كجزء من مراسم الزواج، واستضافة أهل العروس أهل العريس بوجبات يومية لمدة أسبوع.
وقال عبد الحميد، إن أقدم العائلات في باريس هي ” سلطان والمقابيل والشرايجة وأولاد منصور، ويرجع أصول هذه العائلات إلى السعودية، والمطاعنة وإسنا وقنا، ويذكر أن غزو الدروايش للواحات في عام 1893م، أثر كثيراً في سلوكيات وعادات أهل باريس والمكس.
“العادات الباريسية متجذرة في ثقافة السكان”، يضيف أشرف أحمد، مدير مدرسة من أبناء باريس،، مشيرًا إلى تقليد فريد يتمثل في إقامة العريس مع أهل زوجته حتى إنجاب أول طفل.
قرية حسن فتحي
تعد قرية حسن فتحي من أبرز المعالم الحديثة في باريس، وهي مركز عالمي للإبداع ومكان يجسد روح العمارة البيئية. شُيدت القرية بأسلوب يتناغم مع البيئة المحيطة وتستضيف فعاليات ثقافية وفنية.
مشتى السياحة ومصدر الإلهام
يؤكد محسن عبد المنعم، مدير عام الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، أنه بفضل موقعها الفريد وبيئتها النظيفة، تتمتع باريس بإمكانات هائلة لتصبح وجهة سياحية عالمية، تقدم الواحة تجربة فريدة تجمع بين سحر الطبيعة وعبق التاريخ، مما يجعلها نقطة جذب لعشاق المغامرة والباحثين عن الهدوء.
اليوم، تحولت باريس إلى مركز ومدينة تضم وحدات محلية ومستشفيات ومدارس ومعاهد أزهرية مع وجود محطات مياه وصرف صحي، وسنترال آلي، ومركز شباب، ونادٍ رياضي، تتجه باريس نحو مستقبل مشرق في التنمية الزراعية والسياحية.
باريس ليست مجرد واحة؛ إنها لوحة تاريخية تسرد حكايات العصور، وملاذ طبيعي يدعو للاسترخاء والتأمل. بين ماضيها المليء بالأحداث ومستقبلها المشرق، تظل باريس واحة الخير والجمال التي لا تنضب.