جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
فى كتابه الموسوعى “الخطط التوفيقية” والذى ينوء به الفرد بحثا وعلما وجهدا، يقدم على باشا مبارك تفسيرا مهما لتجشمه كل هذا العبء فكرا وجهدا فى التخطيط وكتابة لكل هذا المحتوى فى أجزائه العشرين والصادر عام 1888، حيث نستخلص كيف تنتصر العزيمة والفكرة المبررين فتنتهى بالمنجز وحيث يؤكد أنه حين عزم على هذا العمل لم يجد من يساعده أو يشاركه فى كتابه وحيث “لا حياة لمن تنادى”، هذا العمل يقدر بعض المؤرخين أن كتابته قد استغرقت ما يقرب من 16 عاما، وهو يستكمل به كما ذكر خطط المقريزى التى جعلها تطور الزمان لا تتضمن ما يستجد من عمران وتغيير، يُقتضى أن يحاط به ويدون، ويخصص فيه على باشا مبارك أجزاء للمدن وشوارعها والأحياء وتاريخها، مانحا للقاهرة تموضعها وخصوصياتها.
وتمثل سيرة على باشا مبارك تعبيرا خاصا عن السعى والطموح الإنسانى وما يمنحه ذلك من عزم يتخطى حواجز الظروف والسياقات والمعرقلات، طفلا صغيرا لم يتجاوز 12 عاما يتحمل مسئولية وعبء أن يرتحل وراء حلمه، مغادرا قريته الصغيرة فى الدقهلية عام 1835 ليلتحق بمنظومة التعليم الحديثة التى أنشأها الوالى محمد على وهنا تظهر البصيرة مبكرا، وليتخرج من مدرسة المهندسخانة مظهرا نبوغا وتفوقا ثم يبتعث إلى فرنسا، ويعود إلى مصر فيتولى ديوان إدارة المدارس وليشرف على تطوير منظومة التعليم فى عهد الخديوى عباس الأول، ثم يتبوأ مكانة خاصة فى عهد الخديوي إسماعيل ويكون مسئولا فى إطار خططه العمرانية عن تنظيم القاهرة الحديثة.
وننقل هنا من النسخة الخاصة للجزء الأول لسفره الكبير “من الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة”، والكتاب يحمل تأليف “الجناب الأمجد والملاذ الأسعد سعادة على باشا مبارك حفظه الله” على الغلاف وربما هو تعبير بيروقراطى عن الحالة الوظيفية المهمة والرفيعة التى كانت لعلى باشا مبارك وقت إصدار هذا الكتاب، وحيث يحمل الغلاف أنه الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية، سنة 1306 هجرية، أى فى عام 1888 ميلاديا.
ولا يقف بنا المحتوى عند حيز وصف العمران والشوارع وتطورها تاريخيا بل يمتد أيضا إلى تعريفنا بما عاشته القاهرة ومختلف المدن المصرية ذات يوم من طقس ودرجات حرارة “معتدلة” ولطيفة لتجعلنا نتيقن بأن تحولات المناخ هى بعض من تحولات كل جوانب الحياة فى البلاد والبشر، يقول على باشا مبارك: “ومتوسط الحرارة فى السنة (21,66) درجة وتختلف درجة الحرارة بحسب الفصول وبالنسبة لجهات القطر، ففى وجه بحرى فى ثلاثة شهور فصل الشتاء 12 درجة وأحيانا 14 درجة وفى ثلاثة شهور فصل الربيع ترتفع الى 24 درجة وفى ثلاثة شهور فصل الصيف ترتفع الى 29 درجة وفى ثلاثة شهور فصل الخريف تنحط الى 18 درجة وفى الأقاليم الوسطى تزيد عن الأقاليم البحرية بدرجتين، وعادة يوجد فرق جسيم فى جميع البلاد المصرية بين حرارة النهار والليل حاصل عن هبوب نسيم من الجهة البحرية عند غروب الشمس ويشاهد أن حرارة الليل تنقص عن حرارة النهار ثمان درجات وتارة اثنتى عشرة درجة”.
ويحمل الكتاب فى هذا الجزء بعضا من أهم التواريخ والمفارقات وأيضا ما يستدعى سياقات المقارنة تاريخيا عبر العقود والقرون، فعن إدخال الماء النقى إلى القاهرة على نهج ما هو متبع فى الدول الأوربية ونعرفه حاليا يقدم لنا على باشا مبارك قصة ذلك: “فى سنة خمس وستين ومائتين وألف قصد عباس باشا آمر توزيع المياه فى القاهرة باستعمال وابورات رافعة للمياة وتوزيعها بمواسير داخل البلد، ثم عُرض عليه مبلغ التكاليف وهو مائة وثلاثون ألف جنيه فاستكثره وأعرض عن ذلك فلما آل الأمر الى الخديوى اسماعيلأخذوا فى إجراء العمل”.
وعن تعداد السكان فى ذلك الزمان البعيد وحيث يحتار العقل وهو يسأل كيف ومتى حدثت تلك التكدسات السكانية الخانقة وتراكمت، يقدم على باشا مبارك إحصاءات مثيرة للدهشة: “وفى التعداد الذى صار فى المحرم 1289 هجرية الموافق 11 مارس سنة 1872 ميلادية كان عدد سكان القاهرة (349,883 ) ومن هنا يظهر أن أهالى القاهرة زادت فى عشر سنين (24955) شخصا وبالتقريب خمسة وعشون ألف نفس، وفى خطط الفرنساوية كان تعداد أهالى القاهرة مائتين وستين ألف نفس، فتكون الزيادة التى حصلت فى ظرف ست وثمانين سنة مائة وخمسة عشر ألف نفس فيخص كل سنة 1337 نفسا، ويعلم من ذلك أن الرغبة فى سكنى القاهرة كثرت فى أيام خلفاء العزيز محمد على عما كانت فى مدته، خصوصا رغبة الإفرنج فى سكناها بعد إنشاء السكك الحديد وتوزيع الغاز والماء فيها”. وهو يقدم لنا هنا تفسيرا ضمنيا عن كيف ازدحمت مدينة القاهرة ونمت سكانيا بفعل تركز المرافق والعمران وأيضا ما يستتبع ذلك من توافر المصالح التجارية والإقتصادية وهو مايجلب هجرات سكانية من الاقاليم والمدن الأخرى سعيا وراء الرزق والمعايش.
وفى ذات السياق يقدم لنا ملمحا عن التنوع السكانى وكيف شكلت القاهرة مدينة جذب كونية بفعل ازدهارها الإقتصادى والمجتمعى: “وعدد أهالى القاهرة على حسب التعداد الذى صار فى 3 مايو 1882 ميلادية هو ( 374838 ) منهم (22422) أغراب: (7000 أروام) و (5000 فرنساوية) و (1000 انجليز) و (1800 نمساوية) و (450 ألمان) و (400 أعجام ) و (3367 طيليانية) و (230 أوروباوية من أجناس مختلفة )”.