جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يقول ابن خلدون فى مبتدأ وصفه لسيرة مقامه فى مصر معبرا عن كيف راودت خياله عن بعد، وكيف تجلت أوصافها فى عاطفته ونفسه، وكيف اجتذبته أوصاف مصر مما ذكره أمامه مجايلوه وشيوخه، “حضر صاحبنا قاضى العسكر بفاس الكاتب أبو القاسم البرجى بمجلس السلطان أبى عنان، وسأله عن القاهرة فقال: ان الذى يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التى تخيلها، إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يًتخيل فيها” .
ويكمل فى هذا المقام حديثا دالا: “سألت صاحبنا القاضى وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري، سنة مقدمه من الحج فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام”.
ثم يصف خطواته الأولى فى ربوعها وكان قد قارب منتصف الأربعينات من عمره فى عام 784 هجريا والموافق 1382 ميلاديا، يصف تلك اللحظة فيقول: “ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت .. وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج، ولم يُقدر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذى القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسى المُلك، تلوح القصور والأواوين فى جوه، وتُزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب فى علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، ومررت فى سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم”.
هكذا عبر ابن خلدون فى سيرته الذاتية – التى كتبها بنفسه عن حياته من مبتدأ نشأته وحتى أفول سنواتها- عن مقامه فى مصر، والذى كان كما قد أعلن ظاهريا لسبب الحج، وتحول واقعا إلى مستقر ومثوى أيضا، فى تلك الرحلة التى أرخ بها لبعض من سيرته الذاتية.
يتبقى من الرجل رحلته ووعيه ليدرك مبكرا أهمية ما يكتبه ومكانة ذلك تاريخيا، ويهمنا هنا ذكر ما كتبه فى فترة تواجده بمصر، ويبدأ ابن خلدون رحلته بالعمل فى مجال التعليم :”ولما دخلتها أقمت أياما، وانثال علي طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يُوسعونى عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر بها”، ثم يواصل سرد كيف استقبلته مصر وأكرمت وفادته” ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر اللقاء وأنس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرت لحاق ولدي وأهلي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، إغتباطا بعودى إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه”. وقد استجاب السلطان ويسرد ابن خلدون نص رسالة مطولة كاملة أرسلها السلطان فى هذا الطلب الذى يداوى به احتياج ابن خلدون لتواجد أهله وأبنائه معه.
ثم يروى بعضا من مشاهد حياة القاهرة مصر الدينية :”وكنت ولأول قدومى القاهرة، وحصولى فى كفالة السلطان، شغرت بمدرسة من إنشاء صلاح الدين ابن أيوب، وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه، ووقف عليها أرض من الفيوم تغل عليها القمح، فسميت لذلك بالقمحية”.
ويصف الخطبة التى ذكرها فى حضرة شغره منصب العلم والتدريس فى هذا المقام مختتما “فأقامنى السلطان أيده الله لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدما على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان وإنى موقن بالقصور بين أهل العصور”.
وينتهى واصفا أثر ما حدث بعد سرده لخطبة مطولة كبيرة منظومة مطولة عرضنا مقدمتها السابقة بالقول :”وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتنى العيون بالتجلة والوقار”.
ويحكى فى إيجاز عن التجهيز لرحلة الحج التى قام بها ضمن وفد الحج المصرى وموكبه “خرجت عام تسعة وثمانين للحج، واقتضيت إذن السلطان فى ذلك فأسعف، وزود هو وامراؤه بما أوسع الحال وأرغده، وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع، ثم صعدت مع المحمل إلى مكة، فقضيت الفرض عامئذ، وعدت فى البحر فنزلت بساحل القصير، ثم سافرت منه إلى مدينة قوص فى آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان وأخبرته بدعائي له فى أماكن الإجابة، فأعادنى إلى ما عهدت من كرامته، وتفيُء ظله”.