جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
رجع ترامب إلى ساحة فوزه ومجال منازلة خصومه ومدارات إعلان تصريحاته ومواقفه وسياساته، عاد ترامب إلى منصة تويتر مرة أخرى بعد منع ثم تمنع فهل يعود معه تاريخه الشخصى وتجربته التى صنع فيها من تويتر مركزا للاهتمام وتلقى الأخبار من مركز صناعة القرار الأول فى العالم مباشرة وحصريا ؟! عاد ترامب بزخم أقل فهل على عادة النزالات والمسابقات يجرى “تسخينا” قبل انطلاقة كبرى فى ماراثون توظيف تويتر فى السياسة؟ وهل يكرر تجربة فريدة جعلت من تويتر مع ترامب مصدرا وموجها لصناعة ومتابعات الأخبار من كل الميديا شرقا وغربا لتفقد مبادرتها التاريخية فى الإعلان والسبق مغيرة حالة صناعة الأخبار عالميا كوظيفة اتصالية رئيسية؟
لطالما سأل الفلاسفة وقلدهم عامة الناس السؤال التقليدى هل يمكن عبور ذات النهر مرتين؟ ويقصدون أنه دوما ما يتغير شيء فى السياق والبشر والمتغيرات تجعل كل تجربة مختلفة عما يظنه البعض مثيلتها تماما ولو كان هم ذات الأشخاص وفى ذات الأمكنة، وشيء من ذلك يحدث فى آثار تجربة ترامب “الجديدة” مع تويتر “الجديد” فى ملكية إيلون ماسك له، هكذا تشير السياقات ونمط التوظيف المقل والحذر لترامب، فهل هى اشتراطات علاقته الجديدة بتويتر أم هي طبيعة فترة ما قبل ماراثون الانتخابات الأمريكية، أم هو نمط متعمد وجديد من ترامب نفسه فى إطار استراتيجية لتوظيف مختلف عناصر الميديا والسوشيال ميديا أم أنها ببساطة عدم تفرغ كامل نتيجة انشغال ترامب بالقضايا المتعددة ضده ولم يحن بعد أن يطلق زخمه هادرا على المنصة؟ ربما كل ذلك أو بعضه يفسر، وربما مع الوقت وقرب موعد الانتخابات يظهر التفسير الأقرب للدقة.
يرتبط ما سبق بالطابع السياسي الذى أحدثه توظيف جمهور تويتر للمنصة واستقر كبعض من ملامحها، فما إن تدخل مجال تويتر شغوفا ثم تطلق نصوصك القصيرة التى تصادف حيزا متفاعلا من التعليقات والشير حتى تكون قد أصابتك متلازمة حروف الكيبورد، فتنهمر بعدها سطورك مغردة على شجر الكلام شرقا وغربا، وهكذا فعل الرئيس الأمريكى الأسبق ترامب وهو يمنح تويتر دورا تاريخيا غير مسبوق فى مجال إعلان القرارات وبدء الشجارات محليا ودوليا وحتى كشف نواياه تجاه الأصدقاء والخصوم بشرا ودولا، ليكاد يكون تويتر لديه فى رئاسته السابقة هو ديوان مراسم كامل ووزارة خارجية على الهواء مباشرة.
وقد مثل استخدام الرئيس الأمريكى روزفلت للراديو فى ثلاثينات القرن الماضى حدثا تاريخيا مهما فى تاريخ توظيف الميديا سياسيا فى مخاطبة الجماهير وبناء صورة الرئيس وصناعة الدعم الجماهيرى للقرارات، وهكذا فعل جون كنيدى فى الستينات موظفا عناصر الصورة التليفزيونية، وصنع ترامب مرحلة التطور الثالثة بمنح “تويتر” مكانة تعلو على الساحات التقليدية سياسيا وإعلاميا فى مجال بناء وتداول عناصر عملية صناعة القرارات وإعلانها.
لكن أخطر ما بقى من أثر فى نمط وتجربة تعامل ترامب مع تويتر وفق مؤشرات بعض الدراسات هو أنه لم يكبح جماح الاندفاع لديه وحالة نفاد الصبر والرغبة فى التعبير المباشر أو حتى الإنتقام السريع وقد ظهر ذلك فى مجال قضية إعادة انتخابه وما ارتبط بها من اقتحام الجماهير لمبنى الكابيتول وما ارتبط بها من محاكمات طالته، وليكون ذلك عرضا ملازما لطول الاستخدام والتفاعل، إذ تمنح القدرة على التواصل المباشر والسريع والتفاعل الفورى مع الجمهور عبر المنصات إغراء متزايدا بالاستخدام والتغريد فيما له أهمية وأحيانا مما ليس مهما تماما أو لم يحن أوانه بعد، أو ما قد يحتاج تريثا وتمهلا ومشاورات خاصة لمن هم فى مجال صناعة قرارات حيوية.
ورغم أن طبيعة التوظيف الأولى لتويتر من قبل ترامب أثناء فترة ترشحه الأولى للرئاسة ثم أثناء فترة رئاسته قد حملت معدلات نجاح عالية، حيث استطاع أن يحيد كثيرا من ضغوط وخصومة وسائل الإعلام التقليدية له ومساندتها للمرشحة المنافسة هيلارى كلينتون، بأن صنع دوائر تواصل مباشر له تحمل مواقفه وتعلن رأيه للجمهور عبر تويتر.
وبعد أن استقر ترامب رئيسا لم يغير من تفضيلاته شيئا فى التعامل مع الميديا، مواظبا على منح الأولوية لتويتر صوته المباشر والفورى المختزل النافذ، ووفق دراسة أجرها معهد جالوب تحلل نمط استخدام ترامب لتويتر خلصت إلى أن ما نسبته 76% من العينة عرف أو رأى أو سمع أو قرأ عما يغرد به ترامب على تويتر عبر وسيلة إعلام أو أخرى.
يعنى ذلك شيئا جديدا ومهما هو أن نمط توظيف ترامب لتويتر نجح فى توجيه مختلف وسائل الإعلام سواء منها ما يؤيده أو يعارضه فى مجال بناء المحتوى الإعلامى فيما بخصه شخصا وسياسة ومواقفا، فكانوا متابعين وليسوا صانعين، متلقين ومعلقين وليسوا مبادرين، خاصة وأن ما يطرحه غالبا ما يكون مباغتا وجدليا، وربما الرجل عنى ذلك وأدرك تماما تأثير تلك المباغتات والمفاجآت التغريدية فى إبقاء حضوره مهيمنا فى محتوى الميديا الأمريكية وكونه محورا للنقاش والتفاعل محليا ودوليا أيضا، أى أن ترامب وتغريداته ومنصته قد تحولت إلى أكبر مؤسسة إعلامية تتواصل مع الجمهور دون فرق عمل موسعة ودون حيز مؤسسى مالى وإدارى، وهو تحول نوعى فى مجال الإعلام المعاصر.
هكذا غيرت المنصات طرائق حياة البشر فى مختلف مجالات العيش وأيضا فى السياسة حين تمنح مساحات المتابعة الفورية للتغريدات والمنشورات من نصوص وفيديو وصور عناصر سواء فرادى أو مجتمعين وصنعت أثرها على جمهور المستخدمين وتزامن ذلك مع قدرة محتوى ودلالة التغريدات والتعليقات ذاتها على بناء حالة دهشة ومفارقة وجدل، وأنه من امتزاج هذين التفاعلين تنشأ المتعة، المتعة التى تجعل أيدى البشر تمتد بحنين نحو حروف لوحة الهاتف لصنع حروف وصور محتوى يحملها هواء المنصات فوريا وعاليا فيتنسمها الجالسون فى انتظار مطر الحروف على شاشات الحواسيب والهواتف شغفا ودهشة وتفاعلا.