جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
الحياة في يقيني الشخصي لا تبدأ بالميلاد كما يعتقد البعض، بل تبدأ بوعي الموت؛ وعي موت حبيب أو عزيز لم تكن تتصور الحياة من دونه، ثم استمرت الحياة من بعده رغم وجع الفراق. أو وعي الموت الناتج عن تأمل الإنسان في فكرة الموت ذاتها، وإدراكه أن الموت ليس ما تنتهي إليه الحياة، بل هو رفيقها الدائم، ورفيقنا الذي نستطيع التآلف معه وتقبل وجوده، وعيش الحياة بعمق واستمتاع، لأن وجودنا مهما طال فيها مؤقت وعابر.
والشجاعة في مواجهة الموت وتقبل وجوده والتعايش معه، هو سر انتصار الإنسان في معركة الحياة؛ ففي الحرب الحقيقة إذا سمح الجندي لنفسه بالخوف من الموت سوف يُهزم ويموت بالفعل. وكذلك الأمر في معركة الحياة إذا سمح الإنسان لخوف الموت بالتسلل إلى روحه وقلبه، فسوف يصبح أكثر هشاشة في مواجهة أعباء وتحديات الحياة، ويصبح إنسانًا عدميًا مهزومًا وميتًا معنويًا وهو حي، بعد أن فقد الدافع الأصيل للحياة وهو الرغبة في العمل والإنجاز.
وبعيدًا عن تأملات الفلاسفة حول الموت التي تدعو إلى نضج التعامل معه، وتقبل ضرورته وتجاوز حضوره بشجاعة في الوقت ذاته، وعيش الحاضر واللحظة الراهنة والاستمتاع والإنجاز فيها بقدر الإمكان، فإن الشجاعة في مواجهة الموت ميراثنا المصري الأصيل؛ فالمصريون القدماء لم يمنعهم تأملهم الدائم في الموت وإيمانهم بوجود العالم الآخر، من الاستمتاع بكل صور ومباهج الحياة، وصنع حضارة عظيمة لا نزال لليوم نتباهى بمنجزاتها الأدبية والمادية. ولهذا كان الموت الذي يأتي عندهم بعد حياة من الاستمتاع والعمل والإنجاز والالتزام بالقيم الأخلاقية والدينية، أمرا مرغوبًا فيه لكونه معبرًا لحياة خالدة سعيدة، وحد أقصى للحرية، وخروج للنهار، وعودة للوطن الأصلي والبيت القديم.
أما الموت الجدير بالرثاء والفجيعة عند أجدادنا المصريين القدماء، فهو “موت الإنسان بلا صوت”، أي موت الإنسان من دون أن يعيش ويستمتع على الأرض، ومن دون أن يعمل بإتقان وإخلاص ليُثري الحياة ويخدم مجتمعه ووطنه، ويترك أثرًا يخلفه من بعد يصنع لاسمه البقاء والمجد.
وفصل المقال، إن الموت في حياتنا حقيقة لا يمكن تجاوزها، وكتاب مفتوح بين أيدينا علينا دائمًا أن نقلب صفحاته ونتأمل فيها ونستخلص منها الدرس والعبرة، لكن علينا في الوقت ذاته أن نتعلم بشكل واعِ كما فعل أجدادنا القدماء تجاوز ثقل حضوره؛ لكي لا تتماس البدايات عندنا بالنهايات، فنفقد الدوافع الأصيلة للحياة وهي الأمل والرغبة في الاستمتاع والإنجاز والعمل، وبفقدها نموت في النهاية لكن من دون صوت.