جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يخوض علي بريشة في روايته الجديدة «مماليك جزيرة الرعد» (دار صفصافة، 2024) مغامرة تغوص في أعماق التاريخ، ثم تقفز بك إلى عالم المستقبل!
وعلي بريشة، ابتداءً، هو كاتب وأديب، يستخدم في نصوصه تقنيات روائية ودرامية، لا تخلو من استبصار للغد الغامض، ولا تتورع عن استكشاف مشهد الصحة العقلية والذاكرة السردية والصدمات بين الأجيال والعنف.
في روايته الجديدة، «مماليك جزيرة الرعد»، ينثر الكاتب حروفه في حقل الأمكنة، ويلوّح كالمأخوذ، كما لو أن زوبعة تغلي في صدره.
يبدو لنا الروائي كما لو أنه يستخرج لقرائه وحشًا شديد الضراوة يربض داخله، حتى يستحيل هذا الوحش شيئـًا فشيئـًا إلى فوهة مفتوحة لحرائق الحزن.
تصعقك في الروائية تلك «المحمية الأنثربولوجية»، التي تصنع لنفسها لوائح وقوانين غريبة، حيث «..يوجد ألف سببٍ للقتل، وأحيانًا يحدث القتل من دون الحاجة إلى أي سببٍ مفهوم على الإطلاق» (ص 108).
حين تتصفح الرواية قد تصل إلى استنتاج رئيسي: حين تحاصرك صنوف الجنون والعبث والهزل وتعطيل العقل، ابدأ بطرح الأسئلة المنطقية واطلب إجابات صادقة.. لتعرف الحقيقة.
وربما تهتف في سخط: يا قاتل أخيك، ألا ترى؟ هذا دمه على ثيابك وفي راحتيك، وأنت تهلل للنصر المبين أمام القصر اللعين!
وقد تُردِّد أفكارًا فلسفية من عينة: حين تستقرون جميعـًا في جحيم الكراهية، سيغدو الوطن معادلة رياضية يحتفل الشيطان بحلها.
«مماليك جزيرة الرعد» رواية أحداث مشوّشة، غائمة وديستوبية، بعضها فقط ترك في ذاكرتها وشمًا يتفتّق جُرحه في كلّ هجمة غضب أو حنين أو ندم. ذهنها فضاءٌ فسيح دون حدود، ومليء بالثنايا المتشابكة والدروب الخاوية في عالم حقيقي -هو عالمها- ولكنّه عالمٌ غير متشكّل على نحوٍ منتظم، غير متسلسل على نحوٍ مُرتب زمنيًا وتغيب عنه الخيوط الناظمة، عالم عشوائي ويميل إلى التلاشي المتدرج.
مع ذلك، فإن الروائي ينسج رواية بالغة الذكاء، بدءًا من اختيار لفظة «المماليك» في العنوان، ولها إشاراتها وإحالاتها التاريخية والثقافية التي لا تخفى على أي لبيب، ووصولًا إلى تمرير رسائل ونداءات استغاثة من السفينة الغارقة، علَّ البشر يتحركون لإنقاذها قبل فوات الأوان.
البداية تحذير شديد اللهجة.
في تقديمه للرواية التي تقع في 234 صفحة من القطع المتوسط، يُحذر علي بريشة القراء:
«لا أنصح بقراءة هذه الرواية.. ما زال لديك الفرصة، ابتَعِد.
«في العالم ما يكفي من الجنون، في الماضي ما يكفي من الدماء، في المستقبل ما يكفي من الضباب، فلا معنى لأن تمزج الجنون والدماء والضباب وتمضغها بين أوراق رواية.
«لا أعرف كيف أصيغ العبارة التالية، ولكن.. السفينة تغرق. تخيَّل أن السفينة تغرق» (ص 7).
«من جديد تردَّد صوتُ الرعد في سماء صافية ليس بها سحابة واحدة.
«رعد بلا برق، ولا أمطار. ولا برد يظلل ساحة المعركة المقبلة، فيختلط الهزيم بدمدمة الجند، وصهيل الجياد، وصليل السيوف، وأزيز إذاعة محلية تذيع مباراة في كرة القدم يتابعها بعض القادة الشجعان، في الخطوط الخلفية.
«ارتعدت أوصال الجنود المنثورين في الميدان، لمعت دروعهم المصقولة تحت شمس الضحى. يعلم الجميع أن البعض منهم لن يعود لأهله اليوم، وأن آخرين سينزفون أو تُبتر أطرافهم ويقضون باقي حياتهم البائسة يتسوَّلون لقمة العيش. سيف الموت مُعلَّق فوق الرقاب، ولا تدري نفسٌ بأي طريقة تأتي النهاية.
«يضحك أنصاف المخضرمين الذين خاضوا الحرب من قبل وكُتِبَت لهم النجاة، ينصحون المستجدين الخائفين أن ينظروا إلى السماء؛ فالطيور تُحسِن توقُّع مسارات القذائف، ومن يقرأ المكتوب على أجنحة الطير يستطِع أن يستبشر بالنجاة. يتبجحُ بعضهم ويقولون إنهم يحملون تعاويذ ورُقًى سحرية تُحصِّنهم من الموت، ويتحدَّثون عن بطولاتٍ سابقة حققوها، وغنائم حصدوها وهم ينبشون الجثث بعد المعارك كالطيور الجارحة، فيجمعون تذكارات ثمينة مُخضبة بالدماء من الغنائم، التي تُدخِلُ حصيلتها الرخاء على بيوتهم وأهلهم لشهورٍ طويلة تالية.
أما المخضرمون فعلًا، الذين حُشِروا للحرب عامًا بعد عام، فيبدو المرح أقل ظهورًا في أصواتهم وحركاتهم وهم يتعاملون مع كلٍّ من طائفتي المتبجحين والخائفين» (ص 10-11).
إنها الحرب!
وفي وصف الحرب، يهتم الروائي بالوصف والتفاصيل:
«تساقطت الكلماتُ من أفواه القادة، رجمت الصفوف بوقعها الثقيل. استعمل بعضهم مكبرات صوتٍ التهم أزيزُها حروفَ الكلمات؛ فخرجت مبتورةً كجثثٍ فات أوانُ دفنها.
«ولكن لا أحد يهتم.
«يعلم الجميع أن القناصة، لا الكلمات، هي التي تحفز الصفوف على المضي للأمام والسير إلى الصدام المحتوم مع الصفوف الأخرى القادمة عبر الميدان. يربض القناصة خلف المقاتلين في أبراج عالية تُشرِف على ساحة المعركة، حيث تكمن البنادق القديمة خلف الصفوف فتتربص بالمتراجعين والمتخاذلين، وتمنحهم قتلًا مؤكدًا إذا نكصوا، بدلًا من نجاةٍ محتملة إذا تقدَّموا» (ص 12).
حتى قواعد الحرب والاشتباك مرسومة بدقة في العمل الروائي.
«الحرب اليوم اسمها الرسمي تمَّ الاتفاق أنه سيكون «معركة الكرامة الثالثة». تقضي القواعد بأن المعركة ستنتهي عندما يلتهم الموتُ ألفين من الجنود. تمَّ وضع مجساتٍ دقيقة تحت الملابس العسكرية، تسجل العلامات الحيوية وترصد زفرات الاحتضار، وبمجرد أن يلفظ الجندي رقم ألفين أنفاسه الأخيرة، ستطلق إدارة المحكمين صفارات الهدنة، وسيحظر على الفريقين سفكُ المزيد من الدماء لحين الانتهاء من الإحصاء النهائي. سيكون الفائز هو الذي يُسقِطُ عددًا أكبر من القتلى في صفوف الجيش المقابل، وستُحتسبُ النتيجة بالتعادل إذا كان الفارق بين قتلى الجانبين أقل من عشرين شخصًا. يحقُ للمنتصر أن يتقدَّم مسافة كيلومترين من أرض المعركة في عمق حدود دولة الأعداء، وستقوم إدارة المحكَّمين بإجلاء الجرحى والإجهاز على الميؤوس من نجاتهم عبر تقنيات القتل الرحيم، ثم يُمنح الجنود المنتصرون عشر ساعات يجمعون فيها الغنائم من ساحة المعركة» (ص 13-14).
من العبارات المفتاحية التي تلطمك بقوة لدى قراءة هذه الرواية، الكلمات الواردة في الفقرة التالية:
«تجاهلتُ السخرية واستمررتُ أسبرُ أغوار نفسي وأختبر رنين صوتي الداخلي: هل تعرف كم عدد القرون التي مرت على العالم منذ الحرب النووية الأخيرة؟ لقد نجحنا في صناعة مئات السنين المتتالية من الاستقرار والنظام، في بلادنا وفي بلادكم على حد السواء، ولكننا في الحقيقة أنشأنا غابات مزدهرة من دون أن يكون فيها شجرة واحدة مستقيمة» (ص 223-224).
وفي حوار يدور في الرواية نقرأ على لسان أحد أبطالها ما يلي:
«لقد اعتقد الناجون القدامى أن أكبر أزمات الماضي كانت أن البشر كلما انفجرتْ أعدادهم ضغطتْ على موارد الأرض وفتحتْ أبواب التنافس المحموم والتدمير الشامل والحروب والنزاعات والشرور. وظنوا أن إطلاق العنان للحروب والشرور في نصف العالم يمكن أن ينجي النصف الآخر من التعاسة، ولكنهم كلما أمعنوا في القواعد والقوانين والمحاذير والسلطة الخانقة كلما جعلوا السعادة أبعد منالًا من كرات الزئبق وأفراح الآلهة» (ص 224).
الصراعات التي تزخر بها صفحات الرواية فاتنة رغم دمويتها، وهي تتحدّث عن ديستوبيا مروعة يعيشها العالم. بطريقةٍ أو بأخرى، ندرك عبر صفحات الرواية أن العالم سلة خيرات، أفرغها المفسدون، وصَنَعَ منها الجهلاء سلة مهملات.
الدرس الأخير، وربما الوحيد، في هذه الرواية واضحٌ وجليّ:
إن الذين يُعلِّمون أبناءهم «فقه الموت» لا يريدون الخير لأوطانهم ولا لأهلهم. سبيل النجاة الوحيد هو أن نُعلّم الأجيال القادمة «فقه الحياة».