04:54 م
الأحد 16 يوليه 2023
بيروت – (أ ف ب)
في سوق شعبية في مدينة صيدا في جنوب لبنان، يتناوب الزبائن على الدخول إلى محل أحمد البزري لتجديد أحذيتهم القديمة. ويمتهن هذا الإسكافي حرفة انتعشت على غرار مهن أخرى بفعل الانهيار الاقتصادي المتمادي بعدما كانت مهددة بالاندثار.
ويقول البزري (48 عاماً)، بينما ينهمك مع عاملين اثنين آخرين في تلبية طلبات الزبائن، لوكالة فرانس برس “انتعشت مهنتنا خلال الأزمة.. بات الناس يفضلون تصليح الأحذية خصوصاً في ظل الغلاء”.
ويضيف الرجل الذي تعلّم المهنة من والده “يفضّل الفرد أن يدفع 500 أو 600 ألف أو حتى مليون ليرة (11 دولاراً) على أن يشتري حذاء جديداً”.
ويشهد لبنان منذ 2019 انهياراً اقتصادياً صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم. وقد خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المئة من قيمتها على وقع قيود مصرفية مشدّدة وأزمة سيولة حادة.
وعلى وقع الأزمة، بات غالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر، مع فقدان قدرتهم الشرائية، ما جعلهم عاجزين حتى عن توفير احتياجاتهم الرئيسية.
وبات شراء حذاء جديد أو ثياب جديدة من الكماليات في بلد تلامس فيه نسبة البطالة عتبة الثلاثين في المئة ولا يتجاوز الحد الأدنى للأجور المئة دولار.
وانتعشت جراء ذلك مهن وحرف كانت مهددة بالاندثار، على غرار الإسكافي والخيّاط والمنجّد، مع ارتفاع الطلب على خدماتهم.
أمام محل البزري، يجلس زبون أمام عامل يلصق نعل حذائه، قبل أن ينتعله ويمضي مسرعاً. وفي الداخل، تنفث سيدة دخان سيجارتها بانتظار أن يجهز حذاؤها، بينما تفاوض البزري على خفض البدل الذي سيتقاضاه. وتحيط بها على رفوف أحذية رياضية وتتدلى أخرى عسكرية معلّقة في السقف.
يشرح البزري بينما يقف أمام ماكينة خضراء مرتدياً قميص العمل “ثمة إقبال كبير على التصليح. ازداد عملنا بنسبة ستين في المئة” عما كان عليه قبل الأزمة.
ويتابع “فئات الناس كافة تأتي لتجديد أحذيتها: الغني والفقير ومتوسط العمل والموظف والعسكري. حتى أنّ من لديه حذاء مخبأ منذ عشرين عاماً يحضره ليصلحه”.
“لا قيمة لليرة”
رغم ازدياد الطلب على خدمات الإسكافي، لا يعني ذلك بالضرورة أن مدخوله ارتفع، مقارنة مع ما كان عليه قبل الأزمة الاقتصادية.
في محل متواضع وضيّق لا تتجاوز مساحته مترين مربعين في المدينة الساحلية، يستقبل الإسكافي وليد السوري (58 عاماً) زبائنه عند الباب. تُحضر سيدة حقيبة بحاجة الى خياطة، وُيخرج شاب من على دراجته النارية حذاء نسائياً صيفياً تحتاج أرضيته الى لصق.
ويقول السوري لوكالة فرانس برس “صحيح أن عملنا ازداد، لكن لم يعد للعملة قيمة”.
ويجدّد الرجل الذي يعيل أسرة من ثلاثة أفراد قرابة عشرين حذاء في اليوم، ما يوفر له مدخولاً بقيمة مليون ليرة (11 دولاراً) كمعدل وسطي، يقول إنه بالكاد يكفيه لتوفير احتياجات بسيطة ودفع الفواتير.
ويضيف بينما يكسو الغبار مقتنيات محله المبعثرة والأحذية المعلقة وماكينة الخياطة القديمة “ما من ربح، فأسعار البضاعة كافة مرتفعة، من المواد اللاصقة والإبر والخيطان والمسامير، كله ندفع ثمنه بالدولار لا بالليرة”.
ويروي أنه يضطر أحياناً لمعالجة أحذية مهترئة بناء على إصرار أصحابها لعدم قدرتهم على شراء أحذية جديدة، رغم أنها غير قابلة للتجديد.
وعلى وقع انهيار العملة المتسارع ودولرة اقتصاد نقدي قدّره البنك الدولي بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي في عام 2022، مع معدل تضخم من الأعلى في العالم (171,2 في المئة عام 2022)، تآكلت المداخيل بالليرة بسرعة، ما انعكس سلباً على قدرات المواطنين الشرائية.
في أعقاب الأزمة التي يفاقمها شلل سياسي حاد، يحول دون تنفيذ إصلاحات يشترطها المجتمع الدولي لإخراج البلاد من محنتها، باتت عرين (24 عاماً)، المدرّسة العاطلة عن العمل، تقصد الخياط محمّد مؤذن لإصلاح ملابس قديمة أو تغيير مقاسها.
وتقول لوكالة فرانس برس “نقصد الخياطين في هذه الأيام بالذات لأنّ الظروف أجبرتنا على ذلك”.
وتوضح “سابقاً، كنا نرمي الملابس أو الأحذية أو الحقائب، أو نقدمها لمن يحتاجها، أما اليوم فنحاول أن نستفيد منها” قدر الإمكان لأن كلفة “التصليح مقدور عليها مقارنة مع ثمن القطعة الجديدة”.
“ظرف استثنائي”
يعمل مؤذن (67 عاماً) في مصلحة الخياطة منذ أكثر من أربعين عاماً. ويستقبل بين خمسين الى سبعين زبوناً يومياً في محله المؤلف من طبقتين تتكوّم داخلهما عشرات الأكياس المليئة بالثياب القديمة.
ويوضح “كان الفرد يشتري بنطالاً يلبسه ثم يرميه. اليوم بات يعطيه لشقيقه أو قريبه”.
واحداً تلو الآخر، يدخل الزبائن الى المشغل: بعضهم يريد تضييق ثياب قديمة أو رتيها، وآخرون تقصير بناطيل او فساتين أو إعادة تصميم ملابس قديمة أو حتى ثياب البحر.
ويقول “سابقاً، كانت كلفة تقصير بنطال ثلاثة آلاف ليرة أي ما يعادل دولارين، أما اليوم فحين نطلب مئة ألف من الزبون، أي نحو دولار، يجد الكلفة مرتفعة كونه ينال راتبه بالليرة”.
على بعد عشرات الأمتار، ينهمك مصطفى القاضي (67 عاماً) في تجديد غطاء سرير، ويتذمّر من نوعية القماش المستخدمة وغير الملائمة للأغطية.
ويشرح الرجل الذي ورث المهنة أباً عن جد بينما تحيط به فرش ووسائد ملونة “الظرف الذي نعيشه استثنائي. ثمة أكثرية تفتّق اللحاف وتغسل القماش وتعيد تنجيد القطن، وآخرون يبحثون عن الأقل ثمناً”.
ويوضح “غالبية الناس ترقّع.. نتمنى زوال هذا الوضع لأننا مخنوقون”.