بي بي سي
في صباح يوم هادئ خارج مبنى جامعة نيوكاسيل البريطانية، تستمع مجموعة صغيرة من الطلاب إلى مُحاضٍرة تتحدث عن الأغنية الافتتاحية من فيلم “علاء الدين”.
والأمر يدور بشكل خاص حول هذه العبارة: “إنه همجي، لكن مهلاً! إنه الوطن”. تتحدث المحاضٍرة للمجموعة عن إدوارد سعيد، وكيف يمكن تطبيق عمله الذي يتناول الطريقة التي تُصوّر بها ثقافات الشرق الأوسط في الغرب حتى على أفلام ديزني.
وينتقل الحديث بعد ذلك إلى الكيفية التي يمكن بها تطبيق نظريات سعيد على طريقة تصوير الفلسطينيين في وسائل الإعلام الغربية.
وبينما قد لا يبدو هذا المشهد خارجاً عن المألوف، فإنه ليس حلقة دراسية اعتيادية في جامعة؛ فالمحاضِرة كانت تدلي بحديثها وسط مخيم اعتصام أقامه طلاب الجامعة الأربعاء للاحتجاج على الحرب في غزة.
وهنا في نيوكاسيل، أقام حوالي 40 طالباً مخيماً في إحدى باحات الجامعة، ويضم خيماً للنوم ومركزاً مؤقتاً للإسعافات الأولية وطاولات للوجبات الخفيفة التي تبرع بها الداعمون، ومن بينها الوجبات الخفيفة والمياه وكعكة على شكل يرقة الفراشة.
ويقوم الطلاب أنفسهم بعمل واجباتهم الجامعية أو المراجعة المطلوبة للامتحانات على العشب، أو يذهبون إلى الحلقات الدراسية والمحاضرات، كما يفعلون لو أنهم كانوا في القاعات الدراسية، ويأتي العديد من أعضاء طاقم التدريس لإظهار دعمهم والتبرع بالوجبات الخفيفة، وكل من تحدثت معه منهم أخبرني أنه يشعر “بالفخر” لرؤية طلابه يشاركون في هذا النشاط.
وعلى امتداد محيط المخيم، علق الطلاب لافتات معلقة رسموها بأيديهم.
تُطلعني نعومي، وهي طالبة في الجامعة، على لافتة رسمتها الليلة الفائتة وتخبرني بأن اللافتة تقول: “العدالة، العدالة، في جميع أنحاء العالم”.
وتقول نعومي إن اللافتة- التي كتبت بالعبرية- تعكس كيف شكلت عقيدتها اليهودية رؤيتها للصراع في غزة.
وتشرح ذلك قائلة: “تربيتُ دائماً بإحساس قوي بالعدالة، بسبب مجتمعي اليهودي”، وتضيف بأن اللافتة ” تشمل الكثير مما تعنيه يهوديتي بالنسبة لي”.
وتقول: “ومن نواح عديدة، لو لم أكن يهودية، لما شعرتُ بهذا التضامن القوي مع فلسطين، بسبب الشعور بالعدالة الاجتماعية الذي منحني إياه إيماني”.
وطلاب جامعة نيوكاسيل هم مجموعة من بين عدة هيئات طلابية في عموم البلاد تقيم احتجاجات مماثلة داخل الجامعات هذا الأسبوع.
فقد نُصبت مخيمات مماثلة في العراء في حرم جامعات من بينها ليدز ومانشستر وشيفيلد، بينما أقيم مخيم خارج جامعة واريك منذ 10 أيام، وفي جامعة “جولدسميث” في لندن، شغل الطلاب المكتبة داخل مبنى الجامعة.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، نشر اتحاد الطلبة اليهود بياناً يقول إن احتجاجات الجامعات دعماً لغزة تخلق “جواً معادياً وساماً بالنسبة للطلاب اليهود”.
وأخبرني جاي دابي جوري من اتحاد الطلبة اليهود أنهم يعلمون بوجود داعمين يهود للحركة، ولكنهم سمعوا الكثير من المخاوف من أعضاء الاتحاد.
وبدأت الاحتجاجات الطلابية في المملكة المتحدة بعد مظاهرات واحتجاجات أكبر في جامعات في الولايات المتحدة، وبخاصة جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
وشهدت تلك الاحتجاجات اعتقال أكثر من ألفي طالب خلال الأسبوعين الماضيين.
وبينما يبدو الهدوء في مخيم نيوكاسيل بعيداً كل البعد عن تلك المشاهد، إلا أن المشاركين فيه يخبرونني بأن نظراءهم في الولايات المتحدة رأوا ما يقومون به وكانوا على تواصل معهم.
ويقول طالب آخر من بين المحتجين يدعى فرانك، وهو اسم مستعار: “تلقينا رسائل من بعض الأشخاص في جامعة كولومبيا”، ويقول “إنهم أرادوا فقط أن يرسلوا لنا تضامنهم، وهذا أمر يُثلج الصدر حقيقة”.
ويقولون إن الجماعة المنظمة للاحتجاجات هي “نيوكاسيل أبرتهايد أوف كامبوس”، وهي تنظمها دعماً لغزة منذ أشهر عدة، وإن إقامة المخيم كانت أمراً مخططاً له قبل أن يبدأ الحراك الطلابي في الولايات المتحدة، ولكنها تأتي الآن لتقول للطلاب الأمريكيين: “أنتم لستم وحدكم”.
هناك أهداف مشتركة بين الطلاب في المملكة المتحدة ونظرائهم في الولايات المتحدة، وبخاصة مطالبة جامعاتهم بقطع علاقاتها المالية والبحثية مع إسرائيل، وهي عملية معروفة باسم “سحب الاستثمارات”.
لكن بالإضافة إلى ذلك، يقول فرانك إنهم يشعرون بصلة عاطفية مع الطلاب في غزة، الذين لا يختلفون عنهم في الأوقات العادية.
وقال فرانك: “هناك عشرات الآلاف من الطلاب في غزة، حياتهم قد قلبت بالكامل رأساً على عقب، فلا مجال لكي تتابع التعليم في وقت تتساقط فيه القنابل عليك كالمطر”.
ومضى قائلاً: “نحن نجلس في جامعة آمنة وندرس، وهم لا يحظون بهذه الفرصة”.
احترام حرية التعبير
وعلى الرغم من الهدوء الذي كان يخيم على المكان (وقت إعداد التقرير)، إلا أن التجمعات التي تقام كل يوم عند الساعة الخامسة مساء، تجذب مئات الطلبة، ويقدر فرانك بأن حوالي 200 شخص حضروا التجمع آخر مرة.
سألتُ واحدة من أعضاء الهيئة التدريس، وهي الدكتورة جميما ريبو، المُحاضرة في النظرية السياسية والنسوية، حول ما إذا كانت تشعر بالقلق من أن يكون للمخيم دور تعطيلي خلال موسم الامتحانات.
تجيب الدكتورة ريبو على السؤال قائلة: “لا، على الإطلاق”، فالمخيم نفسه، وإن كان مقاماً في الحرم الجامعي ومرئياً للجميع، فإنه منفصل عن الممرات والمداخل.
وتضيف: “بقدر فهمي فإن العلاقة بين أمن حرم الجامعة والشرطة هي علاقة جيدة جداً”، وتضيف بأنه لم يكن هناك أي توتر بين أعضاء الهيئة التدريسية أيضاً.
في هذه الأثناء، تقول الجامعة إنها “تحترم حق الاحتجاج السلمي وحرية التعبير” وإنها “تتعامل مع المحتجين”.
وقالت الجامعة في بيان لها هذا الأسبوع إن “أولويتنا هي دائماً ضمان أن يبقى حرم جامعتنا آمناً للجميع وأن تكون الاحتجاجات في إطار القانون، فنحن لا نتسامح مع استخدام لغة التهديد أو عبارات الإساءة أو الإهانة أو السلوك الذي يسبب، أو من الممكن أن يسبب، الفتنة”.
وزار أشخاص من العاملين في مجال تقييم المخاطر المخيم، أثناء وجودي هناك للتأكد من أن الأوضاع ما زالت سلمية وأنه لا توجد أي مشاكل تتعلق بالصحة والسلامة.
وجاء المحاضر الدكتور موري رام، أيضاً لتبادل أطراف الحديث مع الطلبة لإظهار دعمه لهم، وينحدر الدكتور رام في الأصل من إسرائيل، ويعيش أفراد من عائلته بالقرب من الحدود مع لبنان.
وقد أثرت هجمات حماس في السابع من أكتوبر، والقصف الإسرائيلي لغزة، في الأشهر التي تلتها، عليه بشكل عميق.
ويقول الدكتور رام: “بصراحة، للمرة الأولى، أشعر بالخجل. فعائلتي هناك… وكل شيء يحدث هناك، إنهم معرضون له”.
ويضيف قائلاً “أعتقد أن المخيمات كهذا المخيم، وما يحدث الآن في الولايات المتحدة، قد يوفر الضغط السياسي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية لكي تقوم بوضع حد للأمر، كما نأمل، وبصورة جيدة”.
لكن الدكتور موري يقول إنه يعلم أنه “لا يمثل غالبية الإسرائيليين” بمواقفه من الصراع.
من جانبه، قال دابي جوري من اتحاد الطلبة اليهود، إن “الطلاب اليهود، على غرار المجتمعات الطلابية كافة، هم مجموعة واسعة ومتنوعة، وهناك مجموعة متنوعة من وجهات النظر في مجتمع الطلاب اليهود”.
وأضاف: “لكنني أعتقد أن الكثير من الطلبة اليهود لا يشعرون بأنهم موضع ترحيب، ولا يشعرون بالارتياح ويشعرون بأنهم على الحافة”.
مشيراً إلى أن “ذلك لا يعني أن كل طالب لديه هذا الشعور، لكننا نعرف من خلال الحديث إلى الكثير من طلابنا في أنحاء البلاد البالغ عددهم 9000 طالب بأن الكثيرين منهم تنتابهم تلك المشاعر أثناء وجودهم في حرم الجامعة”.
لقد أثرت التوترات داخل المجتمع، وبين آخرين من دينها وأولئك الأشخاص من مجموعتها السياسية، على نعومي أيضاً.
وتقول في حديثها معي إن “الأمر يؤدي إلى العزل بصورة لا تصدق”.
وتضيف “أحد الشعارات التي تستخدم غالباً (من قبل الناشطين اليهود المؤيدين للفلسطينيين) هو “ليس باسمي، واسأل لماذا ينبغي أن يكون باسم أي أحد”.
وتمضي قائلة: “لقد كانت أيضاً تجربة عازلة بصورة لا تصدق بأن ترى ردة الفعل اتجاه النشطاء المؤيدين للفلسطينيين من قبل الأشخاص اليهود الآخرين، على الصعيد الشخصي وفي العالم الأوسع”.
وتختم بالقول: “كان من الصعب جداً في بعض الأحيان أن تشعر بذلك الإحساس بالانتماء للمجتمع، والذي كان يشكل جزءاً كبيراً من نشأتي”.