جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لم تكن مأساة وينستون سميث بطل رواية 1984 للروائي العظيم جورج أوريل، سوى أنه أراد الخروج عن الكتالوج المفروض، وفي الدول الديكتاتورية كل الجرائم يُمكن الصفح عنها إلا التمرّد، حقيقة اهتدى إليها قبل ذلك زعيم الثورة الشيوعية الصينية ماوتشي يونغ، حين أحكم قبضته على بلاده في 1 أكتوبر 1949، ومن أجل تصدير النموذج الذي يريده، لم يجد أفضل من الإمبراطور السابق للصين “بويي” والمنفي في سيبريا تحت رعاية كريمة من سيد الكرملين وقتها ستالين.
تمت الصفقة، وعاد “بويي” الذي انتظر سنوات طويلة لحظة قتله من الصينيين ليندهش من أنهم لا يريدون حياته، بل يريدون “إعادة تأهيله” ليصبح مواطنا صينيا شيوعيا نموذجيا. وكانت فكرة ماوتشي يونغ، إذا نجح تأهيل رجل يعد الأسوأ ضمن 5 رجال في العالم بالنسبة للصينين حينها، فمعنى ذلك أن الجميع قادر على التأهيل، وهذا ما نجح فيه، فسنوات قليلة مضت وفوجئ الصينيون بإمبراطورهم السابق وقد تحوّل إلى مواطن نموذجي، يفعل كل شيء بنفسه ومن أجل بلاده.
لكن ذلك صار بعيدًا، فمواصفات المواطن النموذجي الآن لم تعد تتعلق بالأيدلوجية السياسية، والحاكمون للتنين الأصفر لا يهمهم إن كان مواطنوهم يفعلون كل شيء بأنفسهم أم لا، وليس هناك إمبراطور يمكن إثبات نظرية عليه، وليس هناك نظريات أصلا، هذا زمن المال، والمال الوفير، والتكنولوجيا، وإن كان النموذج شرط الحكم الديكتاتوري، فليس هناك ما يمنع من اتباع وسائل أخرى لتحقيق نفس الشرط.
من هنا فكّرت الصين في الذكاء الاصطناعي عام 2020، فهي أمام مليارات البيانات تشرّح حال المواطنين، ما يأكلونه ويشربونه ويشترونه، ما يثير اهتمامهم أكثر، ما هي الأفكار التي تدور في عقولهم، ووصولًا إلى ما يريدون فعله فبحسب التقنينات الحديثة، يمكن توقع أي سلعة ستشتريها في المستقبل حتى لو لم تُدرك أنت ذلك، فتحليل ما تبحث عنه كفيل بأن يؤدي المطلوب منه.
المهم أن بكين رأت كل ذلك، فبدأت قصة الـ “بيج داتا” والمقصود بها، تجميع كافة البيانات المالية التي تتعلق بمواطنيها، سواء البيانات المتواجدة في البنوك، أو الشركات الخاصة، أو التي تجمعها من الأقمار الصناعية الخاصة من خلال المشتريات الـ”أون لاين”، أي بمعنى أكثر بساطة، صارت الدولة تعرف نوع السلع التي تشتريها، وثمنها، ومن يشتري كاش، ومن يلجأ للتقسيط، ومن يبحث عن أكثر طرق التوفير ومن يبحث عن الجودة وهكذا.
هل اقتصر الأمر على ذلك، لا، فتلك ديكتاتورية ناقصة، لذلك بدأت الصين أيضًا من خلال ملايين الكاميرات التي تملأ ميادينها، بمراقبة الصينيين ووضع الوجوه لتطابق حركة التتبع المالي من خلال الذكاء الاصطناعي وخاصية التعرف على الوجوه face recognition وتقديم تحليل لكل شيء يتعلق بهذا الفرد وكانت النتيجة هي وضع تصنيف بدرجات تشمل 950 درجة من خلالها يتم وضع المواطن وتقييمه هل هو مواطن نموذجي أم لا.
بالطبع لا احتاج إلى القول إن التصنيف مالي بحت، وإن كان به بعض الجوانب الأخرى، فحسبما أشارت تقارير إلى أن التصنيف يهدف في النهاية إلى إعادة بناء مجتمع “أخلاقي”، ويشمل أيضَا سلوك المواطن على وسائل التواصل الاجتماعي، هل ينتقد حكومته أم لا؟ هل يتظاهر بثروته وهو أمر ممنوع أم لا؟ والأهم هل يتبرع للحزب أو يتبرع بالدم وكل تلك التصرفات نقاط يتم إضافتها إليك، تمامًا مثل هل تشتري سجائر أو كحول، هل اشتريت حفاضات لأطفالك أم لا؟
هكذا صنعت الصين نموذجها الصارم الذي أسفر أن مدينة مثل نانجينغ وهي مدينة يبلغ سكانها 8 ملايين نسمة، عدد المواطنين النموذجيين فيها 18 ألف مواطن فقط، أما ما جائزة أن تكون مواطنا نموذجيا، فالإجابة إمكانية حصولك على امتيازات كثيرة مثل خصومات على جميع الخدمات العامة والتعليم المجاني والخدمات الصحية، معاملة أفضل في كافة المصالح الحكومية، وعطايا أكبر إن كنت تحتاج الدولة في ذلك مثل القروض الشخصية وما إلى ذلك، أما إن كنت خارج هذا التصنيف فأنك من الدرجات المنخفضة إذ يُنظر إليك كشخص غير مرغوب فيك، وقد تُوضع في قائمة سوداء بالأماكن العامة مثل عدم السماح لك بشراء تذاكر القطار فلا تستطيع السفر!
ولأن تصدير النموذج جزء لا يتجزأ من حماية أي ديكتاتورية، لم تكتف الصين بما تفعله بمواطنيها من خلال الذكاء الاصطناعي و face recognition ، بل هي الآن تحاول تسويقه لدول أخرى تحت غطاء النمو الاقتصادي والحفاظ على المجتمع وأمنه، والشعار الأخير برّاق وجاذب للدول القمعية، وقد تستخدمه دول ديمقراطية، ففي عالم ما زال الصوت الأعلى فيه للدبابة لن يراهن أحد بأمن بلاده مقابل شعارات قد تبدو من الماضي مثل حرية المواطنين وخصوصيتهم.