جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
علمنا درس التاريخ أن الإخلاص والأمانة والصدق مع الله والوطن لا يضمن وجودهم للحاكم الوطني النجاح التام في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبلوغ الأهداف الوطنية، وتأسيس دولة جديدة وقوية، وحماية مشروع الدولة الوطنية، وأنه لابد لتحقيق ذلك من وجود حاضنة اجتماعية وثقافية للسلطة ومشروعها، وحد أدنى من التوافق مع الجماعة الوطنية حول رؤيتها وخياراتها، ورجال دولة مؤهلين للقيام بأدوارهم بمهارة ونزاهة وشجاعة ومصداقية.
وعلى سبيل المثال، فقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر زعيما وطنيًا كبيرًا، وإنسانا وسياسيا في قمة النزاهة الشخصية والإخلاص لمصر وشعبها لكنه “عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت” كما قال عنه الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، ولم يعصمه إخلاصه وتجرده وحسه الوطني وحُسن نواياه من وقوع نظامه ورجاله في أخطاء كبيرة، اعترف هو شخصيًا بها بعد نكسة يونيو ١٩٦٧ عندما أصدر بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨.
وكم هو مفيد لبلادنا اليوم في ظل التحديات والمخاطر التي تواجهنا في الداخل والخارج، معرفة الظروف والدوافع والغايات التي أدت إلى ظهور بيان 30 مارس الشهير الذي وضع خطة للعمل الوطني في مرحلة ما بعد نكسة ١٩٦٧، وخريطة للإصلاح السياسي في مصر. وقد اعترف الرئيس جمال عبد الناصر في بيان ٣٠ مارس بشجاعة منقطعة النظير بالأخطاء التي وقعت فيها نظامه ورجاله بعد ١٦ عامًا من قيام ثورة يوليو، وحاول من خلال البيان الاستجابة لطموحات المصريين عامة، والأجيال الجديدة من الشباب خاصة، مع تقديم وعد صادق بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإجراء إصلاح سياسي شامل لإزالة التناقض بين السلطة والجماهير، وإعادة بناء الثقة التي اهتزت بينهما.
في هذا المعنى قال الراحل الأستاذ صلاح عيسى: “أدرك عبد الناصر بذكاء سياسي أنه لا جدوى من تجاهل حقيقة أن هناك عوامل موضوعية وراء سخط الشعب، وأن عليه أن يسعى للالتقاء مع الساخطين في منتصف الطريق، فقدم رؤية للمستقبل، يمكن أن تكون أساسًا للتوافق، وهو ما أتاح له أن يضمن- إلى حد كبير- هدوء الجبهة الداخلية واصطفافها خلفه، خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه”.
وفي حقيقة الأمر، فقد قدم جمال عبد الناصر في بيان 30 مارس تصورًا للتغيير المنشود الذي يُحدث فارًقا في الرؤية والفكر وفي منهج وأسلوب إدارة الدولة، ولا يقتصر على تغيير الأسماء والشخصيات، ولهذا قال في نص البيان: “إن التغيير المنشود أكبر من أن يكون مسألة تغيير أشخاص، وإنما التغيير الذي نُريده يجب أن يكون أكثر بعدًا وأكثر عمقًا من مجرد استبدال شخص بشخص. إن التغيير المطلوب لا بد له أن يكون تغييرًا في الظروف وفي المناخ، وإلا فإن أي أشخاص جدد في نفس الظروف وفي نفس المناخ سوف يسيرون في نفس الطريق الذي سبق إليه غيرهم. إن التغيير المطلوب يجب أن يكون فكرًا أوضح، وحشدًا أقوى، وتخطيطًا أدق؛ وبذلك يكون للتصميم معنى، وتكون للإرادة الشعبية مقدرة اجتياح كل العوائق والسدود، نافذة واصلة إلى هدفها”.
وهذا الأمر يعني أن بيان ٣٠ مارس الذي كان بمثابة برنامج عمل وطني للتعامل مع نتائج نكسة يونيو 67، قد قدم طوق نجاة لنظام الرئيس عبد الناصر، ولمشروع الدولة الوطنية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو ١٩٥٢، وسعى لإصلاح علاقتها بالمصريين، وإعادة بناء جدار الثقة المتصدع بينهما، وتعميق التلاحم بين جماهير الشعب وبين القوات المسلحة من أجل الثأر من هزيمة يونيو وتحرير الأرض المصرية المحتلة، وقد نجح في تحقيق ذلك إلى حد كبير، لكنه أصبح في أجزاء كبير منه- خاصة بعد وفاة عبد الناصر المفاجئة في سبتمبر 1970 – حبرًا على ورق، وضاع على دولة يوليو ١٩٥٢ فرصة للتغيير الحقيقي، والإصلاح الصادق الذي يُعيد تجديد دوافعها وغاياتها وشرعيتها ومشروعها الوطني، ويضمن وقوف الشعب بكل قوة خلف قياداتها ومؤسساتها الوطنية.
ولهذا تظل روح ودوافع وأهداف بيان 30 مارس مهمة وقائمة ومطلوبة إلى اليوم، وجديرة بالتأمل والدراسة، حتى وإن تجاوز الزمن بعض تفاصيله وملامح التغيير والإصلاح فيه.