بي بي سي
عبّر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، عن دهشتهم من ردود الفعل والتصريحات التي أدلى بها مقدمو البرامج في التلفزيون الإيراني، واصفين نبرتهم أنها “تنبعث منها رائحة الحرب والبارود”.
ويشعر هؤلاء المستخدمون، أن المقدمين هم مقاتلون متظاهرون، يظهرون على الشاشة بزي المذيعين، لكنهم يدعون إيران إلى الانخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل حتى قبل أن تعلن السلطات أي موقف رسمي.
يكشف تحليل التصريحات التي أدلى بها مقدمو البرامج عبر قنوات التلفزيون الحكومي المختلفة، أنه وسط تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، أصبحوا يتخذون أدوار القادة أو المتحدثين أو الناطقين باسم الحكومة، ما يبدو أنه يسهم في إشعال فتيل هذا الصراع.
بعد الغارة الجوية الإسرائيلية على عدة مواقع في إيران في 26 أكتوبر الماضي، رد بعض الخبراء والمقدمين في التلفزيون الإيراني على الشاشات إما بالضحك أو بإصدار تهديدات، أو بالإعلان باسم الحكومة أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية سترد بقوة على هجمات إسرائيل، متعهدين بـ “عملية صادق 3” القادمة.
وبعد يوم من العملية الإسرائيلية، وبينما لم يصدر عن قادة إيران العسكريين والسياسيين أي رد فعل بعد، صرح أحد مقدمي البرامج في برنامج السياسة الخارجية على القناة الثالثة، أن رد إيران على العملية الإسرائيلية كان “مؤكدا”.
وأضاف: “رد إيران سيغير المعادلات الإقليمية، وفي الأيام القادمة، في هذا البرنامج نفسه، بعد رد الجمهورية الإسلامية، سنعرض لقطات للإسرائيليين وهم يهربون”.
وفي حالة أخرى، أعلن مقدم برنامج على القناة الأولى: “إذا لم نفعل شيئا، فسندفع الثمن أمام الأجيال القادمة، لقد تحدث القائد الأعلى عن نسبة واحدة إلى عشرة إذا ضربوا مرة، سنضربهم عشر مرات في المقابل”.
وانتقد بعض مقدمي البرامج أيضا القادة العسكريين والمسؤولين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مشيرين إلى أن الهجمات الإسرائيلية على لبنان وغزة هي نتيجة لعدم التحرك تجاه اغتيال قاسم سليماني وإسماعيل هنية.
كما انتقدوا المتسببين بتردد المسؤولين عن دخول حرب نشطة مع إسرائيل، والذين يصورون الصراع في لبنان وغزة على أنه فخ حرب، بحسب وصفهم لهم.
وأثارت تصريحات مقدمي البرامج في التلفزيون الحكومي عبر مختلف الشبكات ردود فعل من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والصحفيين.
وكتب الصحفي المعروف أوميد فراغت على منصة “إكس” منتقدًا نبرة هؤلاء المقدمين التي تتسم بتأجيج الحرب، تغريدة قال فيها: “للأسف، أصبحت حالة البلاد تشبه المثل القائل: عندما تكون المدينة في فوضى، حتى الضفادع تحمل البنادق”.
هل يقوم هؤلاء المقدمون برسم خطوط للعدو دون تنسيق مع المحررين أو المسؤولين المعنيين أو الجهات الأمنية والعسكرية، أم أن هذه التصريحات جزء من جهد دعائي حكومي مدروس؟، ربما تهدف هذه التصريحات إلى إظهار أن الرأي العام يدعم سياسات النظام ويطالب برد قوي أو حتى حرب رداً على هجمات إسرائيل.
جدل حول “نظرية الحرب”
أكثر البرامج التلفزيونية إثارة للجدل على التلفزيون الإيراني IRIB في الأسابيع الأخيرة كان برنامج “جریان” على القناة الأولى، الذي استضاف محمد مهدی میرباقری، وهو شخصية بارزة وقائد روحي لجبهة الاستقرار المتشدّدة، وعضو في مجلس الخبراء.
ظهر میرباقری في حلقتين، في 7 و14 أكتوبر، تحت عنوان “الفتنة والابتلاء: مصير جبهة الحق”، حيث شارك روايته حول “المعركة بين المؤمنين والكفار”.
في الحلقة الأولى، أكد أن لله خطة عظيمة لشعوب العالم، وهي الحرب بين الكفار والمؤمنين، صراع استمر منذ بداية الخلق وحتى نهاية الزمن، مع تأكيد النصر النهائي للمؤمنين.
وأكد أن الحرب بين الكفار والمؤمنين تهدف إلى التطهير، لتمييز صفوف المؤمنين عن صفوف الكفار، والغرض من هذه الحرب هو الاقتراب من الله.
وما أثار الجدل كانت تصريحات میرباقری في الحلقة الثانية، إذ قال: “لتحقيق القرب من الله، سيكون الأمر مجديًا حتى لو قُتل نصف سكان العالم، لذا فإن وفاة 42,000 شخصا في غزة تعتبر غير مهمة في مواجهة ذلك الهدف العظيم.
وتابع: “في الواقع، الموت ليس هزيمة؛ بل هو انتصار، خاصة أن الذين يُقتلون ليسوا أمواتًا بل أحياء”.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يدلي فيها میرباقری بتصريحات كهذه، لكنها أثارت ردود فعل قوية نظرا للوضع الإقليمي المتوتر في إيران.
في 18 أكتوبر، خصصت صحيفة هم میهن “صحيفة مستقلة تدعم الإصلاحيين” قصتها الرئيسية على الصفحة الأولى لميرباقري، ولقبته بـ “مُنظر الحرب”، وهو اللقب الذي لم يُعجب میرباقري، الذي رد قائلا: “نظرية الحرب هي نظرية أمريكا”.
في مواجهة أمريكا، لدينا “نظرية المقاومة”، بينما يحمل المعسكر الموالي للغرب “نظرية الاستسلام”، الأفراد الغربيون يدعون زيفا أن نظرية التسوية والاستسلام هي “نظرية السلام”، ويصفون “نظرية المقاومة” أنها نظرية الحرب، نحن بالتأكيد صانعو سلام، لكن السلام الدائم يتحقق من خلال المقاومة، وليس من خلال الاستسلام والإذلال”.
في نفس العدد، نقلت صحيفة “هم میهن” عن محمد تقي فاضل ميبدی، عضو مجلس الباحثين والمدرسين في حوزة قم، قوله: “إن الأفكار التي طرحها محمد مهدی میرباقری ليست جزءاً من الإسلام وستجر البلاد إلى الحرب”.
كما قارن الناشط السياسي الإصلاحي محسن آرمين، على قناته في تليجرام، میرباقری بشخص “يرتدي جلد نمر” و”يظهر أنياب نمر”، ما يضر بالدين والإيمان.
“المقاتلون” على التلفزيون
في 29 سبتمبر 2021، عيّن المرشد الإيراني علي خامنئي پیمان جبلي رئيسا لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، ومع تعيين جبلي، بدأت موجة من التغييرات وإعادة الهيكلة داخل المؤسسة، ما أثار انتقادات حادة من قبل المحافظين، الذين وصفوا هذه التحولات بأنها جزء من “مشروع التطهير”- وهو مصطلح تم استخدامه في السنوات الأخيرة في الدوائر المحافظة للإشارة إلى تعديل مواقع المسؤولين الحكوميين بما يتماشى مع أفكار ومعتقدات القائد الأعلى، مما يؤدي فعلياً إلى تضييق دائرة المطلعين.
ووفقا للمادة 175 من الدستور الإيراني، فإن واجب مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية هو ضمان حرية التعبير ونشر الأفكار، وتحمل الشبكة لقب “إذاعة وطنية”.
ومع ذلك، يشير النقاد إليها باعتبارها “حزبية” أو “حكومية” بسبب توجهاتها الأحادية، حيث يزعمون أنها فشلت في عكس صوت الشعب، وعملت بدلاً من ذلك كذراع دعائية للحكومة، وفي السنوات الأخيرة، كمنصة لفصيل محدود من المحافظين.
يقول النقاد: إنه تحت قيادة جبلي، نشأ ما وصفوه احتكارًا جديدًا ضمن احتكار، إذ تولى مدراء مقربون من جبهة الاستقرار السيطرة على المؤسسة.
حتى وسائل الإعلام المحافظة مثل صحيفة جوان ووكالة تسنيم، التي يُعتقد أنها قريبة من الحرس الثوري، قد نشرت انتقادات لتعيينات وإدارة المؤسسة، مشيرة إلى أن تعيين فهيد جليلي، الشخصية القريبة من جبهة الاستقرار، كنائب لبرامج التلفزيون، قد مهد الطريق لدخول فصيل محدد إلى المنظمة.
فهيد جليلي هو شقيق سعيد جليلي، المرشح المحافظ في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الرابعة عشرة التي جرت في يونيو الماضي وفاز بها الإصلاحي مسعود بزشكيان.
في يوليو من العام الماضي، نشرت صحيفة جوان افتتاحية قالت فيها: “يعتقد بعض المراقبين أن فهيد جليلي كُلف بتشكيل فريق مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لصالح جبهة الاستقرار والشخصيات القريبة من شقيقه سعيد جليلي بعد فوز رئيسي في انتخابات 2021”.
واستشهدت الصحيفة بتعيين علي رضا خدا بخش، ابن شقيق سعيد جليلي، كرئيس لمقر انتخابات المؤسسة دليلاً على هذا الادعاء.
أصبح علي رضا خدا بخش، واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية بعد أن تم تعيينه نائبا للشؤون السياسية من قبل پیمان جبلي في 14 أكتوبر 2021.
كما يُقال إنه خلال فترة عمله، كان يصف نفسه بشكل متكرر لمديري المؤسسة والصحفيين، أنه “مقاتل”، مؤكدا: “تكون حياة المقاتلين قصيرة، ولا أنوي البقاء طويلا في المؤسسة، أنا هنا لتنفيذ تغييرات سريعة في هيكل وعمليات التلفزيون وفقًا لنموذج المقاتلين”.
في السنوات الأخيرة، شغل هؤلاء “المقاتلون” أدوارا متنوعة داخل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية IRIB كمديرين ومراسلين ومنتجين ومقدمي برامج، ما أثر بشكل كبير على الاتجاه السياسي للتلفزيون الحكومي.
ومعظمهم متوافقون أيديولوجيا مع جبهة الاستقرار، ويظهرون ولاءً عميقا لـ “الثورة الإسلامية” وقيادة علي خامنئي.
ويعبر “المقاتلون” عن ولاء شديد، ويصفون أنفسهم بأنهم منخرطون في ولاية الفقيه، دون تردد في مهاجمة النقاد، حتى وإن كانوا من الشخصيات المحافظة.
التلفزيون كمنصة للانطلاق إلى عالم السياسة
يقع مقدمو البرامج في التلفزيون الحكومي ضمن فئتين، “الأولى”: تشمل المقدمين الثوريين والموجهين بالقيم، الذين يقدمون برامج سياسية ودعائية مثل: “جهان آرا” والسياسة الخارجية”.
والفئة الثانية: تضم المقدمين الذين اجتازوا عدة ترشيحات سياسية وأمنية، ويتم تكليفهم بتقديم برامج اجتماعية ورياضية متنوعة.
في السنوات الأخيرة، تم منع بعض المذيعين المستقلين أو “غير الملتزمين بالقيم” من العمل بسبب الاختلافات الإيديولوجية أو رفضهم إجراء اللقاءات مع الضيوف. وخاصة أثناء حركة المرأة والحياة والحرية.
تاريخيًا، كان من المعتاد أن يتولى شخصيات تلفزيونية أدوارا في الوزارات أو المنظمات كمديري علاقات عامة واتصالات.
ومع ذلك، كان من النادر أن يحصل مقدم برامج تلفزيونية أو مراسل على مقعد في البرلمان.
تكشف دراسة لمسارات حياة مقدمي البرامج في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية أن البرامج السياسية مثل “جهانآرا” قد عملت كمنصة انطلاق لبعض المقدمين إلى عالم السياسة. شخصيات مثل فهيد يامينبور، نائب وزير الرياضة في حكومة إبراهيم رئيسي، وأمير حسين سبتي، النائب الحالي، استخدموا مثل هذه البرامج والانتماءات السياسية لتأمين مناصب تشريعية أو تنفيذية.
يقول النقاد: إنه على الرغم من تراجع نسبة المشاهدة في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية سنويا، إلا أن مقدمي البرامج فيها حققوا نجاحا ماليا.
ويزعمون أن هذه البرامج تعمل كمنصة لإبرام الصفقات السياسية وتعزيز فصيل سياسي محدد في البلاد.
وفقًا لاستطلاع حديث أجراه مركز بحوث الرأي العام بجامعة طهران، شهدت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية IRIB تراجعا حادا في نسبة المشاهدة.
وقال أكثر من 70% من الناس أنهم لا يشاهدون التلفزيون الحكومي، فقط 12.5% من الناس يحصلون على أخبارهم من المؤسسة، مما يشير إلى أن المنظمة فقدت سلطتها كمصدر للأخبار.
ومع ذلك، يرفض مديرو مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية إحصائيات مركز البحوث، مدعين أن 72% من السكان يشاهدون التلفزيون الحكومي.
رفع البرلمان الإيراني مؤخرا ميزانية مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية للعام المالي 2024 ثلاث مرات، لتصل إلى 473 مليون دولار.
هذه المنظمة الضخمة، التي تضم حوالي 48 ألف موظف، تكلف الحكومة 1.3 مليون دولار يوميا.
ويزعم النقاد أنه مقابل هذا الإنفاق الضخم، كان الإنتاج الرئيسي لهذه المؤسسة هو “رسم خطوط في الرمال وتشجيع إيران على الدخول في حرب مع إسرائيل.”
جدير بالذكر، فإنه وفقا لمحمد سرافراز، الرئيس السابق لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، فإن مكتب القائد الأعلى ورؤساء الفروع الحكومية والوزراء وأعضاء البرلمان والجهات الأمنية جميعهم يمارسون رقابة وتدخلًا في أنشطة المؤسسة ومحتواها. وبشكل خاص، تدخل مكتب علي خامنئي في قرارات البث.
نظرا لهذا المستوى من الرقابة، من المحتمل أن يتمتع المقدمون المميزون في التلفزيون الحكومي بحصانة تمتد إلى ما هو أبعد من قرارات المدراء الداخليين، حيث تقدم القوى السياسية والأمنية خارج المؤسسة دعما كبيرا لاستمرار عملهم.
علاوة على ذلك، تُظهر التجارب السابقة أن التصريحات الاستفزازية للمقدمين ضد القادة الغربيين والإقليميين، بما في ذلك قادة السعودية، عادة ما يتسامح معها المسؤولون، الذين يفسرونها على أنها تعبيرات ثورية، حتى وإن كانت تتناقض مع السياسة الخارجية للبلاد.
ومع ذلك، فإن أي زلة صغيرة من مقدمي برامج الترفيه أو البرامج الاجتماعية على وسائل التواصل الاجتماعي أو أثناء البث تُعالج بسرعة، مما يؤدي غالباَ إلى حظر العمل.
في مارس 2019، كشف محمد سرافراز، الرئيس السابق لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، أن الجهات الأمنية تدخلت في التعيينات الإدارية، حيث زودته بقائمة تضم آلاف “الفنانين والخبراء” الذين تم “منعهم من العمل والدخول إلى المؤسسة”.