جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
جهدٌ مُقدَّر بذله الباحث محمد غنيمة، في كتابه الصادر تحت عنوان «لم يصبه العرش» (دار الرواق، 2023)، حيث تناول في كتابه بالرصد والتحليل، عددًا من الأسماء البارزة في أسرة محمد علي باشا، التي كانت على وشك تولي مقاليد الحُكم ولكن تم استبعادها في النهاية.
ويعد الكتاب -الذي يقع في 218 صفحة من القطع المتوسط- تكملة لمشروع «غنيمة» البحثي الذي بدأه في كتابه «عروش تتهاوى»، وتناول فيه النهايات الدرامية لأفراد الأسرة العلوية. في كتاب «لم يصبه العرش» تناول المؤلف المسار السياسي والنهايات التراجيدية لأمراء الأسرة، والذين كادوا أن يصبحوا حكامًا لمصر، ومن أبرز هذه الأسماء أحمد طوسون، الابن الثاني لمحمد علي باشا، والذي كان محبوبًا من العامة في مصر، وتوقع له الكثير اعتلاء العرش بعد أبيه، ولكنه توفي في العشرين من عمره تاركًا في قلب الباشا الكبير غصة.
يقول الباحث:
«كرسي الولاية، يا له من حكاية لا تنتهي، ولن تنتهي أبد الدهر، والأسرة العَلويَّة طالما اشتعل التنافس والصراع والخلاف فيما بينها لاعتلاء هذا الكرسي» (ص 8). لهذا يقدم هذا الكتاب «صورة الصراعات والنهايات لأمراء الأسرة العَلويَّة ممن كادوا يعتلون العرش، ولم يصلوا إليه بسبب الدسائس أو الموت أو التنازل عن عروشهم أو خوفًا من لعنة ذاك الكرسي، ليكون مثواهم في النهاية مقابر الأسرة العَلويَّة بمسجد الرفاعي أو تحت قبة الباشا أو حتى في جبل المقطم» (ص 7).
ويظل السؤال مطروحًا: «ماذا لو وصل هؤلاء الأمراء لسُدة الحُكْم؟ هل كان وصولهم للعرش سيُغيِّر شيئًا من مجريات الأحداث الجسام التي مرت بتاريخنا الحديث أو واقعنا الآن؟» (ص 8).
يتحدّث محمد غنيمة عن أحمد طوسون، المشهور اختصارًا بـ(طوسون باشا)، وهو الابن الثاني لمحمد علي باشا من أمينة هانم. جاء طوسون باشا (1793-1816) من نصرتلي بصحبة إبراهيم باشا لمصر عام 1805، بعد جلوس أبيه على كرسي الولاية، وكان عمرها وقتها 12 عامًا.
نصَّبه محمد علي باشا قائدًا على الجيوش المتحركة من مصر للحرب الوهابية عام 1811، ومُنِح رتبة الباشوية. كما تحرَّك بالحملة إلى الحجاز بعد أن أقام محمد علي باشا حفلًا في القلعة. وعندما وقعت مذبحة المماليك في القلعة في اليوم الذي كان محددًا لخروج موكب طوسون باشا، أُرجِئت الحملة إلى يوم 30 مارس.
صادف طوسون بعض المشكلات العسكرية في حملته للحجاز، وتعرَّض لبعض الهزائم، وعاد لمصر عام 1815.
تزوج طوسون من بمبا قادن، وأنجبت له عباس الأول والي مصر خلال الفترة من 1848 إلى 1854.
أقام في برنبال الواقعة في البر الشرقي تجاه رشيد، والتمس بها الراحة من عناء المعارك التي خاضها في الحجاز، وليكون قرب الإسكندرية ليرى ابنه المولود، عباس الأول. إلا أنه لم يعش طويًا بعد عودته، واختلفت الروايات في أسباب موته وكيفيته ومكانه، فمنهم من قال إنه عاشر جارية يونانية نقلت له الطاعون، ومنهم من قال إنه أصيب بالطاعون قبل عودته لمصر، ولكن المؤرخين اتفقوا على أن موته كان شديد الوطأة على والده. نُقِلت جثة طوسون باشا إلى القاهرة، ودُفِنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم، حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم (ص 51).
ويُدوِّن الجبرتي عن خبر وفاته الآتي:
“أقام أيامًا برشيد ومعه من مصر المغنون وأرباب الآلات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات، وهم: إبراهيم الوراق والحبابي وقشوة ومَن يصحبه من باقي رفقائهم؛ فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أيامًا، وحضر إليه من جهة الروم جوارٍ وغلمان أيضًا رقاصون، فانتقل بهم إلى قصر برنبال، ففي ليلة حلوله بها نزل به ما نزل من المقدور، فتمرَّض بالطاعون وتملل نحو عشر ساعات وانقضى نحبه، وذلك ليلة الأحد سابع شهر القعدة.
وحضره خليل أفندي قوللي حاكم رشيد، وعندما خرجت روحه انتفخ جسمه وتغير لونه إلى الزرقة، فغسَّلوه وكفَّنوه ووضعوه في صندوق من الخشب، ووصلوا به في السفينة منتصف ليلة الأربع عاشره.
وكان والده بالجيزة فلم يتجاسروا على إخباره، فذهب إليه أحمد أغا أخو كتخدا بك، فلما علم بوصوله ليلًا استنكر حضوره في ذلك الوقت، فأخبره عنه أنه ورد إلى شبرا متوعكًا، فركب في الحين القنجة، وانحدر إلى شبرا، وطلع إلى القصر وصار يمر بالمخادع ويقول: أين هو؟ فلم يتجاسر أحد أن يصرح بموته، وكانوا ذهبوا به وهو في السفينة إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة، وأقبل كتخدا بك على الباشا فرآه يبكي، فانزعج انزعاجًا شديدًا وكاد أن يقع على الأرض، ونزل السفينة فأتى بولاق آخر الليل.
وانطلقت الرسل لإخبار الأعيان فركبوا بأجمعهم إلى بولاق، وحضر القاضي والأشياخ والسيد المحروقي، ثم نصبوا تظلك ساترًا على السفينة، وأخرجوا الناووس والدم والصديد يقطر منه، وطلبوا القلافطة لسد خروقه ومنافسه، ونصبوا عودًا عند رأسه ووضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطلخان، وانجروا بالجنازة من غير ترتيب، والجميع مشاة أمامه وخلفه، وليس فيها من جوقات الجنايز المعتادة كالفقها وأولاد الكتاتيب والأحزاب شيء من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الأحمر على التبانة إلى الرميلة، فصلوا عليه بمصلى المؤمنين، وذهبوا به إلى المدفن الذي أعده الباشا لنفسه ولموتاه.
كل هذه المسافة ووالده خلف نعشه ينظر إليه ويبكي، ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش وربعيات الذهب، ودراهم أنصاف عددية ينثرون منها على الأرض وعلى الكيمان، وعن يمين الكتخدا ويساره شخصان يتناول منهما قراطيس الفضة يفرق على من يتعرض له من الفقراء والصبيان، فإذا تكاثروا عليه نثر ما بقي في يده عليهم، فيشتغلون عنه بالتقاطها من الأرض، فكان جملة ما فُرق وبُدر من الأنصاف العددية فقط خمسة وعشرين كيسًا عنها خمسماية ألف فضة، وذلك خلاف القروش أيضًا والربعيات الدهب».
في كتابه، تناول الباحث محمد غنيمة أيضًا حياة إسماعيل كامل باشا ابن محمد علي باشا الثالث من أمينة هانم، والمسمى بقتيل شندي والمعروف بتهوره ونهايته الدرامية المفجعة في بلاد السودان. فقد أرسله والده محمد علي على رأس حملة إلى السودان عام 1820، لكنه طلب الإذن من والده أكثر من مرة للعودة إلى مصر؛ نتيجة للمتاعب التي تكبّدها في السودان.
من العجيب أن إسماعيل كامل أرسل إلى أبيه 2200 أذن من آذان فرسان الشايقية الأقوياء في السودان، فنصحه محمد علي في رسالة بالرفق وإقامة العدل، وكتب له:
«إن جميع الحكام يعرفون أنهم بإقامة العدل -فقط- يستطيعون استمالة قلوب الأهالي إليهم، لكي يغزوا بلدًا ما، يجب عليهم استخدام الكياسة والفطنة والعقلية السياسية، فلا يوجد حاكم ناجح في إتمام عملية الغزو دون أن يلجأ للعدل؛ فالعدل شرط أساسي لخدمة أي قضية عظيمة.
“لقد كان من الأفضل لك أن تحاول كسب ود الشايقية باستخدام المجاملة والرقة معهم بدلًا من التشدد؛ لكي يسلموا خيولهم وأسلحتهم لك، فتثير بذلك كراهيتهم ونوازع التمرد ضدك».
من المؤسف أن إسماعيل كامل لم يستمع إلى نصائح أبيه بمعاملة السودانيين معاملة حسنة؛ فدبر له الملك نمر مؤامرة وأحرقه في شندي، مما أحزن محمد علي على قتل ابتنه بهذه الطريقة؛ فدبَّر انتقامًا قاده صهره محمد بك الدفتردار.
ومن جيل الأبناء للأحفاد ينتقل الباحث عارضًا بالتفصيل صعود نجم شخصيات أخرى برزت في شجرة العائلة العلوية وعلى رأسها إبراهيم إلهامي باشا حفيد الأمير أحمد طوسون، وأحمد رفعت الابن الأكبر لإبراهيم باشا ابن محمد علي، والأمير كمال الدين حسين، الابن الأكبر للسلطان حسين كامل، والأمير محمد علي ابن الخديو توفيق.
ويعد «لم يصبه العرش»، الكتاب الخامس للكاتب محمد غنيمة، والذي يعمل رئيس وحدة الوثائق في مكتبة الإسكندرية، وصدر له من قبل كتب: «عروش تتهاوى» و«ذاكرة النخبة»، و«جمال حمدان وعبقرية المكان» ومجموعة قصصية بعنوان «غيبوبة».