جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
أظن أن جيل التسعينيات في مصر هو الجيل الأخير الذي تأسس وعيه وتشكل وجدانه عن طريق متابعة الدراما التلفزيونية المصرية الراقية التي مثلت في ذلك الزمان أحد أهم روافد تكوين شخصية ووعي المصريين، وإمدادهم بزاد ثقافي راقٍ، ونماذج إنسانية جديرة بالتأمل والاقتداء، خاصة بعد أن بدأ التدهور في منظومة التعليم المصري الجامعي وما قبل الجامعي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتراجع مع هذا التدهور الدور التثقيفي للمدرسة والجامعة.
ويقيني الشخصي أن معظم أبناء هذا الجيل لديهم ذكريات لا تُنسى مع مسلسلات ودراما التلفزيون المصري عامة، ومسلسلات ودراما رمضان منها على وجه الخصوص، والتي نعود من وقت لآخر لمشاهدتها لاستعادة مشاعر وذكريات وطموح وأحلام ذلك الزمان.
خاصة أن شدة معيشتنا لحكايات وأبطال تلك الأعمال قد صنعت منهم في وعينا وذاكرتنا “شخصيات مفهومية” حية ثرية بالمضامين والدلالات والقيم الإيجابية؛ مثل شخصية طه حسين في مسلسل الأيام، وجمعة الشوان في مسلسل دموع في عيون وقحة، ورأفت الهجان في المسلسل الذي حمل اسمه، وأبو العلا البشري في رحلته، وعباس الضو في مسلسل المال والبنون، وطه السماحي وعلي البدري وناجي السماحي في مسلسل ليالي الحلمية، وخليل حسن خليل في مسلسل الوسية، وحسن أرابيسك المصري الأصيل في مسلسل أرابيسك.
وانطلاقًا من تجربتي الشخصية، يمكن القول إن “مسلسل الأيام” الذي روى قصة كفاح ونجاح الدكتور طه حسين، كان له أعظم الأثر في تفتح وعيي الفكري والثقافي، وفي تعريفي بقيمة ودور الدكتور طه حسين في ثقافتنا، وتحفيزي للقراءة عنه وزيادة المعرفة به.
كما أن حكاية الطفل الكفيف طه حسين الذي تجاوز بيئته الفقيرة وصعوبات وتحديات حياته، ليتعلم في أرقى الجامعات، ويبلغ أعلى مكانة في الحياة والثقافة المصرية والعربية، قد جسدت أمامي في سن صغير أعظم دروس الحياة، وعلمتني أن لا شيء مستحيل إذا توفرت الرغبة والإرادة.
وعلمتني أيضًا أن التعليم والفكر والثقافة غايات عظيمة تُطلب لذاتها، ولكونها يمكن أن ترفع الإنسان إلى أعلى المراتب الاجتماعية والأدبية، خاصة لو وظفهم صاحبهم في خدمة وطنه وناسه ومجتمعه.
ومثله أيضا فعل المسلسل الشهير “الوسية” المُستمد من قصة كفاح حقيقية للدكتور العصامي خليل حسن خليل أستاذ الإقتصاد والعلوم السياسة، والذي أظن أن معظم أبناء جيلي من أصحاب الأحلام الكبيرة لا يمكن أن ينسوا هذا المسلسل وأغنياته التي كتبها الراحل سيد حجاب، ولحنها ياسر عبدالرحمن، وغناها محمد الحلو، وكانت بالنسبة لنا انشودة للحرية والأحلام ولتقوية إرادة الاجتهاد والمثابرة.
أما المسلسلات التي عرضت لتاريخنا الوطني والاجتماعي والسياسي، وتناولت التحولات التي طرأت على الشخصية المصرية، فقد كانت لرصانتها أشبه ما تكون بأبحاث علمية مُعالجة دراميًا، ولهذا تأثرنا بها كثيرًا، وتعلقنا بأبطالها وأحداثها، وتعلمنا منها، مثل مسلسل دموع في عيون وقحة، ورأفت الهجان، وبوابة الحلواني، والشهد والدموع، والمال والبنون، وليالي الحلمية، ورحلة أبو العلا البشري، وأرابيسك، وغيرها من مسلسلات انتجها التلفزيون المصري في الثمانينيات والتسعينيات، وارتقت بحس المصريين الوطني والثقافي والإنساني، بل امتدت إلى الوطن العربي ودخلت كل بيت فيه، وكانت من أهم روافد قوة مصر الناعمة.
والآن عندما يتذكر المرء دراما تلك السنوات والنماذج الإنسانية التي قدمتها، وصورة مصر التي نقلتها للخارج، يُدرك حجم الفارق بين حياتنا ودراما زمان وبين دراما حياتنا اليوم، فيشعر بحنين شديد لتلك المرحلة من حياته، ولزمن فتوة روحه وأحلامه فيها، ويُردد مع أبطال مسلسل ليالي الحلمية: ليه يا زمان مسبتناش أبرياء؟!