جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في العام 1924 قرر إسماعيل محمد مصطفى أحد مواطني مديرية الفيوم أن يقوم برحلته داخل ربوع مصر، والتي عنونها: “رحلة إسماعيل في جميع المحافظات وعواصم المديريات” ونشر كتابه ذلك بعد أن أنتهى منه عام 1927 ووضع له كلمات مفتاحية على الغلاف تشير الى طبيعته بأنه: جغرافي. دليل. مختصر، وأنه يشمل خريطتي الوجه البحري والقبلي وصور أثرية ومناظر.
وينبهنا اسماعيل بوضوح في صفحة الغلاف الخارجي بأن: ” كل نسخة غير موقعة بختم صاحبها تكون مسروقة”. وربما كان ذلك دليلا “أثريا” على محاولات استمرت وتطورت لوقف سرقات الكتب التي بدأت طبعا متصلا في بعض العواصم منذ عقود ثم صارت في عصر الإنترنت مشاعا مفتوحا، وربما ينهبنا إسماعيل في كلماته تلك إلى محاولاته المبكرة تلك والتي تناسب عصرها والتي يقوم فيها المؤلف بنفسه بجهد لحماية الحقوق المادية والفكرية لمؤلفه، ومع ذلك ومع مرور العقود فقد صار هذا الكتاب ذاته بطبعته القديمة تلك التي تعود إلى عام 1927 مشاعا متاحا على مواقع الإنترنت.
ثم إشارته إلى ختم النسخ بختم صاحبها ربما تعود الى ما كان معتادا في ذلك الزمان من أن لكل شخص من موظفي وسكان ذلك الزمان ختما خاصا به يحمل اسم ويشبه توقيعه الحالي على الأوراق الرسمية والمستندات إثباتا لخصوصيتها وانتسابها له، ويوجهنا المؤلف الى أن الكتاب يطلب من المكاتب الشهيرة بالمحافظات والعواصم، ويحدد سعره بسبعة قروش صاغ، كما يحمل الغلاف اسم المطبعة وهى: “مطبعة هندية بالموسكى مصر”.
ربما قرر إسماعيل أن يسير على درب كتاب على مبارك في موسوعته الشهيرة “الخطط التوفيقية” ذات العشرين جزءًا والصادرة فى عام 1872م، ربما استلهم اسماعيل فكرة الكتاب الكلية لكنه كان مقدرا لحجم المجهود الذى يقدر عليه وطبيعة المحتوى الذى يمكنه أن يقدمه عدا احتياج ذلك إلى منهج وتمرس فى الجمع والتحليل والعرض، فكان الكتاب “رحلة” كما حمل عنوانه وإن لم يخل الكتاب من وقائع ومشاهدات مهمة ترتبط بعصرها، ويقدم لنا إسماعيل نفسه بأنه ولد في مدينة الفيوم عام 1900 وأتمم الدراسة الابتدائية والثانوية بها عام 1917 وقام برحلته تلك عام 1924 ثم أخيرا كما قال :”غادرت الفيوم في أكتوبر 1925 وأقمت بالقاهرة للاشتغال بالتجارة.” وهو تعبير تاريخي عن قدرة المركز/ العاصمة بكل الثقل الحداثي والتجاري والثقافي لها على استقطاب وفتح أبواب الجذب للتحقق الوظيفي والتجاري لأبناء المحافظات والمديريات والذى تواصل متضخما بعد ذلك عبر الزمان.
من اللمحات الطريفة ما ذكره اسماعيل في مقدمة كتابه الصغير الذى تبلغ عدد صفحاته 164 صفحة في تعريف السفر بأنه من أهم أبواب الراحة والنعم به يحصل الإنسان على الأرزاق ويفارق المنتقدين والأخصام وأنه شتان بين شخص سافر وآخر لن يسافر.
ويضع إسماعيل صورة فوتوغرافية له في مقدمة الكتاب وقد ارتدى بدلة عصرية حديثة وطربوشا وتحتها: صورة صاحب الرحلة إسماعيل محمد مصطفى، ويقول لنا أنه قام بتلك الرحلة بدءا من الوجه القبلي: “فكنت أنتقل الى القرى والمراكز باحثا واخترت فصل الصيف عام 1924 للتجول في الوجه البحرى فسرت انتقل من عاصمة إلى أخرى حتى انتهيت إلى أسوان”، وتجمع لديه خط سير بالشوارع والدروب والمدارس والأضرحة التي زارها وبعض مذكرات قصيرة عما شاهده أثناء تجواله.
ويشير إلى أنه في كتابه قسم القطر المصري وفقا للتقسيمات الإدارية وتكلم عن جميع المديريات والمحافظات والعواصم وبعض المراكز وأهم حاصلات وصناعات بعض المدن والمديريات وشيئا عن تاريخها وحالة طقسها وموقعا الجغرافي وخطوط السكك الحديدية الأميرية.
يبدأ إسماعيل تحت عنوان وصف مصر جغرافيا بالقول: “وهى بلاد غنية بحاصلاتها الزراعية وللقطن الفضل الأكبر في ثروتها ورخائها وجوها جميل جدا شتاء ومعتدل صيفا”.
وينقل لنا بيانات عن إحصاء عام 1917 لنعرف أن عدد سكان القاهرة كان 800 ألف نسمة والإسكندرية 445 الف نسمة وبورسعيد 57 الف نسمة والاسماعيلية 16 الف نسمة ودمياط 31 الف نسمة.
وتحت عنوان: القاهرة يصف إسماعيل: يقال لها مصر المحروسة وهى جنة أفريقيا وروضة البلدان واسعة الأرجاء شاهقة القصور غنية الرجال، محلاة بالحدائق مزدانة بالأئمة أنوارها زاهية وشوارعها مزدحمة، أرزاقها موفورة ومساجدها بالعبادات معمورة .
ويصف سكان القاهرة بالقول: “حسنو الأخلاق طيبو العشرة، الرجال مشتغلون بعملهم والسيدات يلبسن الأزياء الجميلة غالية الثمن ويخرجن للتزاور والنزهة والفتيات يبذلن جهدهن في العلوم”. ربما كانت وجهة النظر تلك متأثرة بما عرفه وطالعه إسماعيل من مظاهر حداثة وتمدن وانتشار للتعليم في القاهرة قياسا بالمحافظات ووجود أنماط ثقافية مغايرة أو أكثر حداثة مما كان يعرفه من قبل فجاء هذا الوصف الذى يحمل رؤيته الشخصية متأثرة بتجربته.
ويصف حديقة الأزبكية بأنها أكبر الحدائق وتقع بالأوبرا وتفتح أبوابها يوميا ورسم الدخول بها خمس مليمات عدا أيا الموسيقى فرسم الدخول بها ضعف ذلك وبها قمة جبلية وبعض أسماك صغيرة مختلفة الألوان.
ويصف لنا طرق المواصلات في القاهرة في ذلك العام 1924 بأنها الترام التي تسير بنظام مخصوص وسيارات تكس بالعداد تدفع بدون أخذ ولا رد – يشير إلى عادة المساومة والتفاوض فى السعر بشأن كل شئ والتى تبدو هكذا تقليدا اجتماعيا قديما وراسخا- والسيارات العمومية وعربات الجياد وعربات الاومنيوس (سوارس).
ويصف الإسماعيلية بأنها مدينة بديعة المباني أسسها المغفور له إسماعيل باشا وقد وصلت في الحضارة والرقى الى شوط بعيد وهى هادئة الحركة لا تسمع فيها ضوضاء عربات النقل اللهم إلا تغريد البلابل على غصون الأشجار ويكثر هناك سير السيدات الأجنبيات راكبات دراجاتهن الخصوصية ترويحا للنفس.
وينتقل بنا إلى مديريات الوجه القبلي ليرصد لنا أن عدد سكان مديرية الجيزة يبلغ 514 ألف نسمة، وأن أكثر عدد سكان مديريات الوجه القبلى هو في مديرية أسيوط 981 ألف نسمة، وتليها مديرية جرحا وبندرها سوهاج 863 ألف نسمة.
ويقدم وصفا تفصيليا لحديقة الحيوانات بالجيزة التي أنشئت عام 1891 وتفتح أبوابها من الساعة التاسعة صباحا ورسم الدخول بها خمس مليمات ويؤمها كثير من الخلق بقصد الرياضة والمشاهد، وتصدح بها موسيقى الأحداث أيام الجمع والاحاد عدا شهرى رمضان وأغسطس، كما يقدم جدولا لمواعيد إفطار وغذاء بعض الحيوانات والطيور بها.
ويصف مدينة بني سويف بأنها حاضرة المديرية المسماة باسمها وهى من المدن الراقية بالوجه القبلى، حسنة المنظر جميلة المباني بها من القصور البديعة شيء كثير، وجوها صحى لحسن موقعها ويوجد بها مسجد السيدة حورية الشهير ومدارس ابتدائية وأولية ومحكم كلية.
بينما يصف أسيوط بأنها حاضرة المديرية المسماة باسمها وأعظم بنادر الوجه القبلي وأكبرها في الحركة التجارية، وهى قديمة العهد عريقة في التاريخ ويسكنها أثرياء مصر العليا ويسميها بعضهم عاصمة الصعيد، ويشتغل أهلها بتجارة الحبوب والمينيفاتورة وجوها ردئ جدا فهو في الصيف شديد الحرارة وفى الشتاء كثير البرودة ومن فندافها جراند أوتيل واللوكاندة الخديوية.
أما مديرية قنا وفق وصف المؤلف في رحلته: “مناخها حار أرضها خصبة تروى بري الحياض ويزرع بها العدس وقصب السكر والخشخاش – والذى يبدو وفق هذا الوصف أنه كان عند ذلك التاريخ وقبله جزءا من الزراعات المتعارف عليها وقبل تجريمه ومنعه الذى تم بقانون رسمى عام 1925- والبصل والفجل والقثاء والطماطم والبطيخ وأجود أنواع البلح خصوصا الصنف الشهير بالزغول.
ويضع في نهاية الكتاب قائمة بأسماء وطبيعة عمل ومحافظة بعض من التقى بهم في رحلته وقدموا له يد العون عبر مختلف المحافظات والبنادر وعلق شاكرا: ” للحفاوة الغالية والاستقبال الجليل الذى قوبلت به وكذلك الذين شرفونى بمنزلي وهنأونى بسلامة العودة والذين طلبوا متى وضع هذه الرحلة”.
وينهى إسماعيل كتابة بخاتمة موجزة يخصص لها صفحة كاملة يكتب فيها: “هذه الرحلة بادرة عملي. تمت بحمد الله”.