08:45 م
الثلاثاء 15 أبريل 2025
كتب – محمد طه ومروة شاهين:
انسدل ستارٌ كثيفٌ من الدخان، كفنًا مبكرًا يعلن تشييع ملاكين.
رائحة الاحتراق اللاذعة كانت تملأ الأجواء، تمتزج بحرارة خَبَتْ نيرانها للتوّ، تاركةً وراءها صمتًا مُبْهَمًا لا تقطعه سوى همسات الخوف، وصوت أقدامٍ حذرة تتحسس طريقها وسط بقايا المراتب المحترقة في أرض المصنع، باحثة عن الثنائي الضائع بين أهوال الكارثة.
هنا، سيكشف انقشاع الدخان عن مشهد سيصيب حضوره بالصمت والصدمة، إلا من صرخة مكتومة انطلقت حسرة من أحدهم، بدا كمن يعلم بتفاصيل قاسية غابت في قصة الصغيرين: “يا رب رحمتهم من اللي كانوا عايشين فيه… يا رب ارحمهم”، قالها وانصرف متحسرًا على أحمد أبو المجد (12 عامًا) وشقيقه معاذ (11 عامًا)؛ ضحيتي حريق مصنع مراتب المحلة الكبرى.
أحمد ومعاذ.. كأنهما جسد نُحت من صخرة الفزع
بدأ كل شيء ليل أمس الإثنين، حين انفجرت ألسنة اللهب كـبركان غاضب، تلتهم بشراهةٍ محتويات أحد مصانع المراتب في مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، فما كانت إلا لحظات حتى انتشر الخبر وشقّ هدير سيارات الإطفاء وأضواؤها الوامضة جدار الدخان والصمت المُرعِب الذي فرضته النيران.
هرع الأهالي إلى محيط المصنع فور وقوع الحادث، كل يحاول بكامل طاقته السيطرة على ألسنة نيران تواصلت قرابة الساعتين. لحقتهم طواقم الإطفاء بعدها وتولت باقي المهمة.
ما إن هدأت النيران وأتمت فرق الإطفاء مهمة تبريد المكان بدأت المعلومة تتسرب همسًا بين الحضور: أحمد ومعاذ الطفلين كانا بالداخل.
تضاعف القلق، وتحولت الأنظار إلى أيّ علامة حياة وسط هذا الدمار.
في ركنٍ قصيّ، لفت باب دورة مياه موارب الانتباه. لم يكن هناك دخان كثيف يتصاعد من خلفه، لكن ما رآه الحضور في الداخل كان أشدّ وطأة من أي لهب.
هناك، في ذلك الحيز الضيق، تجمد الزمن في لوحة تراجيدية مؤلمة: جسدا أحمد ومعاذ، على الأرض في وضع الجلوس، متشبثين ببعضهما البعض في عناقٍ أخير، كأنهما جسدٌ واحدٌ نُحت من صخرة الفزع. وجوههما الصغيرة، التي لم ترَ من الحياة إلا قسوتها، بدت ساكنة الآن، وقد غادرتها الروح.
أحمد ومعاذ.. ما بدأ قبل عامين
الناس من هول المشهد بدأت تتساءل: من هما هذان الملاكان الصغيران اللذان جمعهما شقاء الحياة وعناق الموت؟ وكيف انتهى بهما المطاف في هذا المصنع الذي تحول إلى مقبرة لبراءتهما؟
قبل عامين من تلك الليلة المشؤومة، كانت حياة أحمد أبو المجد (12 عامًا) وشقيقه معاذ (11 عامًا) قد اتخذت منحىً قاسيًا.
في صورة استعارية لضياعهما، انتقلا من حضن أمٍ ضاقت ذرعًا بحياة زوجية مضطربة، إلى كنف أبٍ اشترط وجودهما معه ثمنًا للطلاق.
كان الأمل يحدوهما بأن يجدا في بيت الأب مرفأ أمان يعوضهما عن غيابه الطويل وحياتهما المتأرجحة، لكن سرعان ما تبدد هذا الوهم، وانكشف لهما وجه الحياة الصارم تحت ظله.
لم تكن لهما حياةٌ بمعنى الكلمة. لا بيت ثابت، ولا دفء أسري، هو التنقل ما بين بيت الأب وبيت الأم، بينما أغلب الليالي تُقضى على فراش إسفنجي رخيص في زاوية المصنع، هذه البوتقة التي صهرت براءتهما وشهدت على ساعات عملهما الطويلة المرهقة ثم لحظات موتهما الأخيرة.
أُجبر أحمد ومعاذ على ترك مقاعد الدراسة، وسُرقت منهما طفولتهما على مذبح لقمة العيش.
كان المصنع عالمهما، أو قل سجنهما، ومرقدهما المؤقت. فكانا يواجهان قسوة الأيام معًا، يشدّ كل منهما أزر أخيه، في تكافلٍ صامت ضد عواصف الحياة التي لم ترحم صغر سنّهما.
أحمد ومعاذ احتميا بالموت.. باب أخير يغلق أبدًا
في ذلك المساء المأساوي، وبينما كان الطفلان ينهيان ما كُلّفا به من عمل لا ينتهي، أشعل عاملٌ موقد غاز صغيرًا ليعدّ كوب شاي.
لمسة ريح عابرة كانت كافية لتُرسل شرارةً طائشة نحو قطعة إسفنج قريبة. وما هي إلا لحظات حتى تحولت الشرارة إلى أفعى نارية زاحفة، التهمت بشراهة أكوام الإسفنج والمراتب المعدّة للتسليم، مطلقًة سُحُبًا من الدخان الخانق الذي أعشى الأبصار وسدّ المنافذ.
الفزع جمّد أطراف أحمد ومعاذ.
ألسنة اللهب بدأت رقصة الموت حولهما. كومة المراتب قرب الباب، استحالت جدارًا من الجحيم يسدّ عليهما طريق النجاة الوحيد.
تبادلا نظرةً فهم فيها كل منهما رعب الآخر. وفي لحظة يأسٍ خاطفة، تذكرا دورة المياه في آخر الورشة. أسرعا إليها، وأغلقا الباب خلفهما، ظنًا بأن جدرانها الهشة ستكون حصنهما المنيع.
احتضنا بعضهما بقوة، بحثًا عن طمأنينة زائفة في مواجهة مصير مجهول.
دموعهما البريئة امتزجت بالخوف، وصرخاتهما الطفولية “بابا الحقنا يا بابا” ارتفعت.
استمر الصراخ ثم انقطع. انقطع الصوت فيما بقي عناق أخير. جسد ميت صغير يحمي جسدًا ميتًا صغيرًا آخر حين غاب جسد الأبوين.
انتشل الشقيقان أخيرًا لتهدأ روحاهما في صمت مدفنهما، وقد تركا أثرًا على انفصال ثم إهمال أودع الطفلين مصيرهما. هناك.. في المصنع.
اقرأ أيضًا:
مصرع طفلين في حريق مصنع مراتب بالمحلة الكبرى
دخان مصنع المراتب خطف براءة محمد وأحمد.. وداع مؤثر للشقيقين ضحيتي حريق المحلة