بي بي سي
تشهد مدن إسرائيلية عديدة، منذ مساء الأحد، مظاهرات هي الأكبر منذ السابع من أكتوبر الماضي، على خلفية مقتل ست من الأسرى الإسرائيليين في غزة واستلام جثثهم.
وأمرت محكمة العمل في إسرائيل، الاثنين، بوقف إضراب عام كان قد دعا إليه اتحاد نقابات العمال الإسرائيلي (الهستدروت) استجابة لدعوات وجّهتها عائلات الأسرى بخروج مظاهرات في عموم البلاد.
ليعلن رئيس الهستدروت، أرنون بار ديفيد، عن صدور تعليمات للعمال بالعودة إلى أعمالهم، امتثالا للحُكم القضائي.
لكن المظاهرات مستمرة، رغم إنهاء الإضراب، الذي كانت عدة بلديات أعلنت الامتناع عن المشاركة فيه، ما رأى البعض أنه يعكس انقسامات عميقة بين الإسرائيليين بشأن الحرب في غزة.
ورغم ما تكشف عنه استطلاعات الرأي من أن غالبية الإسرائيليين يرغبون في إبرام صفقة لاستعادة الأسرى، ثمة كثيرون في اليمين الإسرائيلي يدعمون موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته الرافض لإبرام مثل هذا الاتفاق، لا سيما إذا كان يعني إنهاء الحرب ضد حركة حماس.
وأعادت هذه المظاهرات إلى الواجهة انقسامات سياسية، كانت إسرائيل قد شهدت على إثرها مظاهرات حاشدة على مدى شهور قبل أن تقع هجمات السابع من أكتوبر 2023 فتوقف تلك المظاهرات.
ورجّح الباحث أبراهام ديسكن، زميل منتدى كوهيليت للسياسات، أنْ تُجدد هذه المظاهرات “الصدع في داخل المجتمع الإسرائيلي”.
ورصدت صحيفة يديعوت أحرونوت مواجهة وقعت بين متظاهرين وامرأة معارضة لخروج المظاهرات، حيث صرخت فيهم قائلة: “ابني يقاتل في غزة. يقاتل من أجل إنقاذ الأسرى، وليس نائما هنا دون أن يفعل شيئا. أما أنتم فلا تفعلون أي شيء، سوى الصياح”.
وفي حديث لبي بي سي، رأى عصام مخول، رئيس معهد توما للأبحاث السياسية والاجتماعية في حيفا، أن ما حدث في هذه المظاهرات هو “انفجار للتناقضات التي تموج بها الساحة الإسرائيلية”.
وقال مخول: “ما شهدناه هو التعبير الحقيقي عن الرأي السائد في إسرائيل، ولا مقارنة بين أعداد المؤيدين للصفقة والرافضين لها؛ فثمة مئات الألوف في مقابل قلة ترفض الصفقة … هناك أصوات مجنّدة قادمة فيما يبدو من مشارب سياسية مؤيدة لنتنياهو لكنها قلة قليلة”.
ومن مظاهر الانقسام التي شهدتها المظاهرات الإسرائيلية، أن عائلات الأسرى أنفسهم، شهدوا فيما بينهم اختلافاً في الرأي بخصوص هذا الاتفاق، فبينما ينادي منتدى يمثّل معظم هذه العائلات بسرعة التوصل لاتفاق، خرج منتدى جديد يُدعى “تِكفا” ليطالب بعدم إبرام مثل هذه الصفقة.
وفي بيان له، ندد منتدى تكفا بدعوة رئيس الهستدروت للإضراب العام، واصفاً الدعوة بأنها “حُكم بالإعدام على بقية الأسرى” وبأنه “مكافأة لقائد حماس يحيى السنوار على قتل الأسرى السِت”.
ودعا منتدى تِكفا، في المقابل “المواطنين الإسرائيليين إلى إنهاء الإضراب والعودة إلى العمل”.
وفي ذلك، قال عصام مخول لبي بي سي: “نتنياهو يلعب دائما على خلق تناقضات، سواء فيما بين عائلات الأسرى في غزة وبعضها البعض، أو بين موقف هؤلاء العائلات من جهة وموقف عائلات الجنود الذين قُتلوا ولا يريدون لدماء أبنائهم أن تذهب سُدى من جهة أخرى”.
ورأى مخول أن “الرأي العام في إسرائيل يحاصر نتنياهو الذي يضرب عُرض الحائط برأي الأكثرية في بلاده”.
وقال مخول لبي بي سي: “نتنياهو يُصرّ على أن الطريقة التي يسير بها هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأسرى، وهذا الكلام لا تشتريه الأكثرية الساحقة من الجمهور الإسرائيلي”.
وفي مؤتمر صحفي، الاثنين، طلب نتنياهو “الصفح” لعدم قدرته على إنقاذ الأسرى الست، قائلا: “أطلب منكم الصفح لعدم إعادتهم أحياء .. ستدفع حماس ثمن ذلك غاليا”.
وشدد نتنياهو: “لن أرضخ للضغوط … لا أحد أكثر مني التزاما باستعادة الأسرى … لا أحد يستطيع أن يقدم لي دروساً في هذا الشأن”.
وكشف استطلاع للرأي أجرته القناة الـ 12 الإسرائيلية أن 7 من بين كل 10 إسرائيليين يرغبون في أن يترك نتنياهو عالم السياسة وألا يخوض سباق الانتخابات المقبلة.
قوة الهستدروت
ومما كشفت عنه هذه المظاهرات في إسرائيل، قوة الـ هستدروت (اتحاد نقابات العمال) التي أضافت زخما كبيرا إلى المشهد، لا سيما بما دعت إليه من إضراب عام، حتى أن الحكومة اضطرت تحت الضغط الهائل إلى اللجوء للمحكمة من أجل إلغاء هذا الإضراب.
وسارع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إلى إدانة الإضراب العام، قائلا إنه “يصبّ في مصلحة حماس”.
ورأى سموتريتش أن هذا “إضراب سياسي، وليس من اختصاص الهستدروت”، قائلا إنه لن يتم السماح “بقلب البلاد رأسا على عقب، واستخدام العمال كسلاح لمناصرة رأيٍ سياسيّ”.
وفي حديثه لبي بي سي، رأى عصام مخول: “أن النقابات الإسرائيلية تحركت متأخرة، وكان عليها أن تتحرك قبل الآن، ولكن لا بأس هناك قوة للعمال المنظَّمين أو للنقابات إذا استُعملتْ، وها هي استُعملت أخيرا”.
وقال مخول: “أعتقد أن تأثير هذه النقابات يُبيّن للحكومة أنها ليست مصدر القوة الوحيد بحيث تتجاهل إرادة الجمهور … الطبقة العاملة تشكّل الطبقة الأوسع في المجتمع، ولها ما تقوله، ومن المهم أن تسجّل موقفها وأن تنضم إلى المطلب الشعبي المطروح حاليا”.
وبينما كان محاطا بأفراد من عائلات الأسرى، قال رئيس الهستدروت، أرنون بار ديفيد: “يستحيل أن نظلّ في موقف المتفرج أكثر من ذلك .. نحتاج إلى التوصل لصفقة .. هذا أهم من أيّ شيء آخر”.
ولفت مخول في حديثه لبي بي سي، إلى أنه “في الوقت الذي كانت فيه النقابات مترددة وعاجزة عن اتخاذ موقف مؤيد للمطلب الشعبي الواسع في إسرائيل لإبرام صفقة، كانت حكومة نتنياهو راضية عن هذه النقابات، أما الآن، فقد خضعت النقابات لهذا الضغط الشعبي العارم وخصوصا بين العمال”.
ولكن، ما هو مبلغ قوة الاتحاد العام لنقابات العمال أو الهستدروت، وماذا نعرف عنه؟
“أقدم من دولة إسرائيل”
للهستدروت تاريخ طويل من النفوذ في إسرائيل، بحسب تقرير نشرته صحيفة النيويورك تايمز.
وتكفي الإشارة إلى أن الهستدروت أكبر سِناً من دولة إسرائيل بنحو 28 عاما، حيث أنشئ في عام 1920، في وقت كان للنقابات العمالية دور فاعل ومؤثر على القرار السياسي والاقتصادي في عدد كبير من الدول.
وكان الهستدروت في بداياته يستهدف تلبية احتياجات العمال في زمن هجرة اليهود إلى ما كان يُعرف وقتها بـ “فلسطين تحت الانتداب البريطاني”، إلى جانب هدف وضْع الأساس لقيام دولة إسرائيل.
وبالفعل، أسهم الهستدروت في قيام المؤسسات الصناعية والمالية والاقتصادية التي قامت على أركانها دولة إسرائيل في عام 1948.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن زعيم الهستدروت في سنواته الأولى هو ديفيد بن غوريون، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء لإسرائيل.
وفي السنوات الأخيرة، لعب الهستدروت دورا رئيسيا في السياسات الإسرائيلية، فقاد في العام الماضي إضرابا ساعد في إرغام نتنياهو على تعليق خطة كانت تستهدف إحداث تغييرات جوهرية في النظام القضائي الإسرائيلي.
ويعدّ الهستدروت أضخم منظمة من نوعها في إسرائيل، وهو يمثل نحو 800 ألف عامل من نحو 27 نقابة منفصلة.
ووفقا لدائرة المعارف البريطانية، تتجاوز أنشطة الهستدروت الحدود التقليدية لنقابات العمال.
ويضم الهستدروت عمالا من معظم قطاعات إسرائيل الزراعية والصناعية على السواء، ويعدّ أضخم منظمة تطوعية، وأهم كيان اقتصادي في البلاد.
كما يضم الهستدروت وكالات تسويق وتوزيع للسلع الاستهلاكية، والأجهزة والمعدّات؛ ومؤسسات بناء ضخمة تتولى إقامة المستوطنات والمنشآت العامة؛ وجمعيات ائتمان وبنوك؛ ونقابات عمالية وجمعيات تعاونية في كل قطاعات الأعمال.
ويتعامل الهستدروت مع معدلات الأجور وظروف العمل في القطاع الخاص.
وتمثّل شركات الهستدروت المتنوعة أكثر من 20 في المئة من الدخل القومي في إسرائيل، كما أنها مسؤولة عن الخدمة الصحية، ونظام التأمين الاجتماعي في البلاد.
وتمتد أنشطة الهستدروت التعليمية والثقافية، لتشمل مدارس ثانوية وفنية، ومسارح ومطابع كتب، وجرائد ودوريات تقنية.
ويدير الهستدروت مكتب تنفيذي منتخَب من قِبل لجنة تنفيذية، وهذه اللجنة بدورها منتخَبة من قِبل مندوبين يختارهم الأعضاء. ويرتبط الهستدروت بالكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة.