-مارينا ميلاد:
عبر شوارع ملتوية ضيقة، يَمشي عدد من السودانيين إلى داخل أحد الأماكن المعروفة لمن حولهم أنه ناديهم بمنطقة عين شمس، إلى عالم يبدو غامضًا لمن لا يدركه، بعضهم يجلس على بابه يتسامرون وكأنهم يميزونه.. يلفت مشهدهم الأنظار، ويضيف عليه إثارة تلك الأصوات المنبعثة من داخله.. وكأن ممر هذا النادي هو الفاصل بين عالمين، الأول على مرأى الجميع والثاني مُغلق على ناسه وأنشطتهم وأحاديثهم.
هؤلاء بين نحو 9 ملايين شخص ما بين لاجئ ومقيم تستضيفهم مصر (بحسب تقدير الحكومة)، يشكل غالبيتهم عوالم وتجمعات إما للترفيه أو للنقاش أو للعمل، بعضها منطوية ومغلقة وأخرى منفتحة ومنسجمة مع غيرها.. سنعبر عتبات ثلاثة عوالم منها، هي الأكبر: السودان، سوريا، فلسطين، من خلال كل من “طارق”، و”منى”، و”عبدالفتاح”.
يبـدو من جدران النادي السوداني القديم عمره وحالته، وتشير عشرات الصور المثبتة عليها إلى أنشطته الممتدة لأزمنة. وعلى جانبيها، كان يصطف عشرات أمام التلفاز لمشاهدة مباراة الأهلي ونادي العين الإماراتي، وأخرون لا يبالون كثيرًا، فيجلسون في الداخل يلعبون الورق (الكوتشينة)، وهي نشاطهم المفضل..
يمر طارق الحاج بجانبهم، وهو في منتصف الخمسينات من عمره، لكنه يبدو أكبر من ذلك.. فيسألهم عن نتيجة المباراة ثم يغادر سريعًا ليفحص أوراقًا بها مئات الأسماء التي بحاجة إلى تقديم المساعدة، وهو عمله وأولويته لأكثر من 8 سنوات يرأس فيها هذا النادي..
يترك الأوراق للحظة ثم يقول: “هذا حالنا كل يوم، نحاول أن نهون على ناسنا، إما بأنشطة ولعب كما يحدث خارج الغرفة، أو مساعدة أخرين قدر الإمكان.. ذلك ما اعتادنا عليه”.
فيما كانت الجدران بمطعم الفلسطينية منى الغرييني بالقاهرة الجديدة، مطلية حديثا، وكل شيء هناك يعبر عن الهوية الفلسطينية: رسمة “البطيخ”، السيدة المرتدية الزي التقليدي، ومفتاح العودة المرسوم على قائمة الطعام، وبجانبه الشرح الذي تؤمن به “منى” وغيرها من أبناء مكانها “هو رمز لثقتهم بالعودة إلى ديارهم ذات يوم”.
صنعت “منى” كل شيء ليكون لائقا باسم مكانها “جذور”، الاسم الذي أتت به من فندقها بشارع رشيد المطل على البحر في غزة، والذي دُمر مع مطعم ومحال أخرى، لتخسر أكثر من 5 ملايين دولار بعد حرب إسرائيل على القطاع الممتدة لأكثر من عام.
فور وصولها، تدخل إلى المطبخ، لتتأكد أن كل شئ يسير جيدًا، تسأل اثنين من فريقها، فيردون عليها باللهجة الفلسطينية.. الرجلان هما أبناء أخيها، الذين فروا معها بعد شهر واحد من الحرب، حين أدركوا جميعًا أنها ليست كالحروب الفائتة، لتبدأ “منى” معهما من الصفر مرة أخرى، وكأنها تعود إلى ما قبل 30 عامًا، عندما شقت طريقها في مجال ريادة الأعمال كأول سيدة بغزة.
تخرج لتجلس على طاولة بزاوية، ترى منها كل طاولات مطعمها والمكان بالخارج، وهو مُجمع للمطاعم والكافيهات، تلف عيونها عليه لترى المارين فيه، تدرسهم وتحاول فِهم طبقاتهم، أذواقهم، واختياراتهم..
فقد قضت 3 أشهر عند مجيئها لمصر تبحث عن الموقع الأنسب لها وسط فيض من المطاعم والمقاهي باتت تملأ أرجاء العاصمة، فاختارت هذا المكان، وفي رأيها “هو يتوسط كل المناطق التي يسكنها الطبقة المستهدفة من الفلسطينيين المقيمين أو القادمين من غزة”..
فتقول بنبرة تحدِ ممتزجة بانكسار نوعا ما: “نبدأ هنا من جديد بنفس الاسم (جذور) حتى ننبت بالقاهرة”.
على مقربة من مطعم “منى”، كانت الأضواء العالية تشد الانتباه لمحل السوري، عبد الفتاح الشاهر.. هنا تتصاعد التحيات والصياح والدندنة والضحكات صاخبة من العمال وعشرات الزبائن الجالسين في طاولات ملتفة حول بعضها. يَعزم “عبدالفتاح” بإصرار على كل زواره ليتذوقوا مختلف المنتجات سورية، فيغريهم التجربة والشراء.
هذا المحل الثالث لـ”عبد الفتاح” في مصر. جاءها صبيا قبل 13 عامًا، والآن يملك الرجل الثلاثيني فيها مصنعًا ينتج منه مختلف المنتجات التي يعرضها في محلاته الثلاثة.
وطوال ساعات عمله، يظل “عبدالفتاح” واقفًا، يداوم على الترحاب بزبائنه من المصريين ومراقبة كل شئ يدور بمكانه، يلتفت كأنه يشرح ما يفعله، قائلا: “تلك هي الهوية التي ننقلها، المعاملة والكلام والطعام الجيد المميز لنا”.
لدى السوداني “طارق” شكل آخر يُعرف به هويتهم، فبينما يعلو صوت المشاجرات المازحة بين المتفرجين على المباراة لاختلاف انتماءاتهم الكروية، ينظر “طارق” إليهم من مكتبه ضاحكا، ثم يقول: “السودانيون بطبعهم في أي مكان يحبون هذه التجمعات الخاصة بهم فقط، حتى أنهم يسكنون في مناطق واحدة”..
يسكت، تاركا صمت غطاه أصواتهم ذات اللهجات المختلطة، ثم يقول: “هذا يسبب لنا أزمة سواء ضغط على هذا المكان القائم على التبرعات فقط، أو نظرة الناس أن السودانيين كُثر وموجودين في كل مكان”.
في هذا الوقت، كانت “منى” تنهض لتلقِ السلام على زبائن وصلوا مطعمها للتو. الحديث الذي يدور كله باللهجة الفلسطينية ينم عن هوية هؤلاء الزبائن.. غابت عنهم للحظات، ثم عادت بقائمة الطعام الفلسطيني كالفتة الغزاوية والمقلوبة والزغاليل والمفتول.
يتفحص الجالسون القائمة عدا أميرة اللوحيدي، التي لا يعنيها الاختيار كثيرًا، فتقول: “كل الطعام الفلسطيني جيد، أعيش في مصر منذ عام 2021 بسبب دراسة أولادي، وتنقلت بين المطاعم المصرية والسورية، لكن الطعام الفلسطيني شيء آخر، وربما يشعرني ويذكرني بما هو أكثر من مجرد مذاق طعام”.
“أميرة” واحدة من المحظوظين الذين زاروا غزة وعادوا إلى مصر قبل اندلاع الحرب بشهر واحد، فشجعت “منى” التي تربطها علاقة قديمة بها وبفندقها بغزة أن تقيم لهم مكانا بمصر، مكان تلتقِ فيه بمن تعرفهم.. فتقول: “نشعر في أماكنا، بهويتنا، بالنفس في الطعام والروح والدفء”.
وفي الردهة، كانت “منى” تتابع بنفسها نزول كافة الأصناف على مائدة “أميرة”، ثم تشير من بعيد إلى الجالسين قائلة: ” نحن كنا نعيش في مدينة صغيرة مغلقة على ناسها، فالكل يعرف بعضه.. وهؤلاء من يسندونني هنا”.
بينما تستقبل “منى” زبائنها المفضلين من أفراد مجتمعها، كان العكس تمامًا عند محل الشاب السوري “عبد الفتاح”، فأغلب من يسحبون كراسيه للجلوس هم مصريين، فيقول مستنكرًا: “لماذا يأت السوريين إلينا؟، هم يعرفون منتجاتنا، لكن المصريين يجدون فيها اختلاف”.
هذه القناعة جعلته لا يهتم أن يفتح فرعًا بالمناطق التي تشهد تجمع السوريين الأكبر، كالسادس من أكتوبر أو الرحاب.
لا يتعامل “عبدالفتاح” مع سوريين بشكل يومي سوى خلية النحل التي تعمل معه، ويشكلها 13 سوريا، فيقول: “صحيح أننا نساعد بعضنا من خلال المشروعات، لكننا لا نوظف سوريين فقط، فيعمل هنا 7 مصريين”..
ساعات مرت، انتهت فيها المباراة وانفض الجمع، وارتكن “طارق” بظهره على الحائط الذي يحمل علمي مصر والسودان، ليصغي إلى أشخاص جاءوا يناقشون مشكلاتهم وطلباتهم.. فالنادي يأتيه نساء وأطفال وأحيانًا أشخاص قادمون من جنوب السودان، يحرص “طارق”، كما يقول، “ألا يغلق بابه في وجه أحد، بشرط أن يبتعدوا عن أي أحاديث يمكن أن تُفرق، كالتي تخص السياسة أو مشاركة نساء أو قبائل بعينها”.
فبعد اندلاع القتال في السودان، إبريل 2023، تغير وجه الأحاديث والمشكلات والأعداد، وتبدلت كل حسابات “طارق”. فيقول: “كنا نعمل على مساعدة نحو 500 أسرة، زادوا بعد الحرب لـ3500 أسرة، وهذا في نطاق منطقتنا فقط”.
تأرجحت الأحاديث الملقاه أمامه الآن بين العمل وتوفيق الأوضاع أو العودة، العودة التي ربما تكون على لا شيء، فما تركوه ورائهم إما دُمر أو سُرق، كما يرى “طارق”.
يكمل وهو يتطلع إليهم: “كان أكثر المتشائمين منهم يتوقع أن هذه الأمور ستستمر شهرين أو ثلاثة فقط، لم تكن خطتهم أن يبقوا كل هذه المدة، التي نفدت خلالها أموالهم”.
لكن في تلك الأزمة، بَرز له جانبا آخرا من تكافل السودانيين، وهو مساعدات الأفراد المقيمين بالخارج للأسر الموجودة هنا، وهو ما يقول إنه “التزام مجتمعي.. لولاه، كانت ناس منهم ماتت”.
أما الأحاديث الحاضرة عند “منى”، فهي حبيسة أخبار حرب غزة اليومية، يغلب عليها الضحايا والمجازر والعائلات التي انقسمت نصفين، كعائلة “منى” نفسها، التي لازال أشقاؤها في منطقة دير البلح.
فتقول بإحساس لم يبدده النزوح والنجاة: “النفسية سيئة جدًا، نحن لا نذهب إلا للأسواق أو على أحسن حال؛ نأتي إلى المطاعم مثل هذا المطعم، فمن خرجوا يفكرون طوال الوقت في الموجودين هناك”.
لكن في مكان “عبدالفتاح”، لا مجال للحديث سوى عن العمل فقط أو تفاصيل الحياة اليومية العادية.. يرى أن “ما اتفق عليه السوريون جميعًا، أن لا مكان للسياسة وما يجري في سوريا في نقاشهم”.
لا تجمع يخصهم إلا افتراضيًا من خلال “جروب” على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، يقول “إن عليه يعرضون مشكلاتهم، خاصة التي تتعلق برواتب السوريين الذين يعملون عند سوريين أيضًا، لأن الأغلب يعرف بعضه، فيمكن أن يتدخل أحد للحل”.
تلك المساحات الافتراضية، تملأها منشورات الرحلات، الأشخاص التي تسوق لمنتجات تبيعها، محال وشقق معروضة للإيجار، مشكلات التسجيل بالمدارس الحكومية، ومراكز تعرض مساعدتهم على التسجيل بمدارس خاصة، ورسوم الإقامة التي بلغت حوالي 7 آلاف جنيه مصري.
تنهال الإشعارات على “عبد الفتاح” من هذه الصفحات والمجموعات، يفحصها سريعًا، ثم يقول بعد كل ما يتابعه: “السوريون يريدون أن يتعايشوا فقط”.
———————-
بنهاية اليوم، يأخذ “طارق” استراحة قصيرة، يلعب فيها الدومينو مع “مؤمن”، طالب المحاسبة بجامعة القاهرة.
“طارق” المولود بالقاهرة، لأبوين سودانيين، وذهب كثيرًا إلى السودان ومعه ابنتيه، يتحدث عنها طوال الوقت لـ”مؤمن” الذي ولد بها وفر منها طفلا حين ساءت ظروف أسرته، فلم يعرفها ولا زارها.
يخلطا قطع الدومينو ثم يأخذ كل منهما قطعه، مشهد يتكرر كل يوم تقريبا لـ6 سنوات، منذ عرف “مؤمن” النادي وبدأ يتردد عليه حتى صار المسؤول عن تنظيم الكورال والندوات والمناسبات فيها، والتي يدعي “طارق” إليها أي فنان أو شخصية عامة سودانية تزور مصر، ليُعرف الصغار أمثال “مؤمن” على جذورهم.
لذا يقول “مؤمن”: “أشعر أنني وسط أهلي، أتعرف على السودان هنا”.
وحتى خارج أبوابها، فمعظم أصدقاء الشاب الصغير في الجامعة من السودانيين، وإن خرج للتنزه، فيهذهب إلى مقاهي أغلب روادها منهم، فيقول بصوت خافت إنه “يرتاح بها أكثر”.
يقبض “طارق” يده على إحدى قطع الدومينو ويدبها بقوة، يبدي دهشته مما يسمع، فيحكي أن أيامه لم يكن بها مقاهي ولا مطاعم تخص السودانيين، كانوا أكثر اندماجًا مع المصريين، لا أحد غريب بأي حال من الأحوال.
ومع قطعة الدومينو التالية التي يرميها، يدير حديثه ليكون من وجهة نظر المصريين أنفسهم: “كانوا يرون القادمين جميعهم من نفس الملامح ونفس اللهجة، فهم من المناطق الشمالية، لكن بعد الحرب صار القادمون من جنوب وشمال، من قبائل ولهجات وملامح مختلفة”.
رشف “طارق” من كوب الشاي، وأفلتت منه ابتسامة وهو يتذكر شيء، ثم ضرب مثالا: “نحن نعرف مزاح المصريين، حين يقولون لنا (يا زول) أو نداءات أخرى معروفون بها، لكن الجدد يتحسسون ويعتبرونها تنمرا”..
في تلك الأثناء، كانت “منى” تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي مثل “عبدالفتاح”، وتمرر بأصبعها على عدة منشورات بمجموعات الفلسطينيين المقيمين بمصر.. ترفع عينيها وتقول، “ظهر نحو 20 مشروعا آخرا بعدنا، مطاعم وكافيهات أو بيع ملابس أو بيع طعام أون لاين”..
تقطع حديثها، لتودع زبائنها قبل رحيلهم، ثم تقول مبتسمة: “اكتسبنا الثقة بسبب المصريين، فيقولون لأنكم فلسطينين سنأكل هنا أو نشتري من هنا”..
وعند العاشرة مساء، تطفئ “منى” أنوار محلها.. فيداهمها وقت فارغ في الليل، يجعلها تستدعي كل ما يجري ببلدها، كل أحاديث زبائنها وحالهم، فتقول وهي تسير نحو سيارتها: “من خرج من غزة معه أموال، لكن إلى متى ستبقى؟.. ليس هناك بصيص أمل، المسألة مبهمة، نحن نعافر فقط لنعيش.. لكننا نريد أن نعود، لذلك أضع مفتاح العودة أمامي في المطعم”.
ويبدو أن حلم العودة إلى سوريا يراود “عبدالفتاح” أيضًا، لكن ليس بنفس القدر، قد ينشغل عنه كثيرًا.. صحيح يفكر في سوريا، وعلى الناحية الأخرى، في كل ما أنجزه هنا، وكأنه ينازع نفسه، ثم يقول: “ستظل بلدي، أتمنى أن أعود يومًا بالتأكيد، على الأقل أزورها”.
وفي ساعة متأخرة عنهم، ينصرف “طارق” من النادي.. يتبادل السلام مع السودانيين المنتشرين حوله بالمنطقة، وربما في داخله تمني تجاههم، يُظهره بشكل واضح في حديثه، “أتمنى ألا ننغلق على أنفسنا هكذا، هذا خطأ من كل الأبعاد، سواء إقتصادية أو اجتماعية.. ببساطة أنتم كمصريين تعرفون الأكل السوري والآن الفلسطيني، وتذهبون إلي أماكنهم، لكن إن اقترحت على أحد مكان سوداني، لن يفعلها”.
———————-
اقرأ أيضا:
منشورات يافا: “حتى لا ننسى خريطة غزة”
الطريق إلى المعبر.. أيام الهروب من حرب السودان
بتقنية الواقع المعزز| التقِ مع أطفال غزة النازحين إلى مصر