01:07 ص
الإثنين 26 أغسطس 2024
موسكو – محمد البدري:
تصوير: مصراوي
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، فرضت الدول الغربية حزمات عقوبات مشددة على روسيا جعلت الأخيرة تعمل على إيجاد حلول للتغلب على آثار تلك العقوبات خاصة المتعلقة بالتأثير المباشر على النظام المالي للبلاد.
وفي حين تصاعدت العقوبات الغربية على الصناعات الحيوية الروسية، سعت روسيا لإيجاد بدائل تضمن نمو اقتصادها واستمرار التصدير للدول الصديقة، فضلا عن تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الواردات خاصة في مجال الأمن الغذائي، لاسيما أن موارد روسيا من الحبوب حوالي تشكل ثلث الصادرات العالمية.
في هذا الشأن كان لمصراوي تجربة عن قرب لمعرفة كيف واجهت روسيا العقوبات الدولية، من خلال جولة نظمتها الوكالة الفيدرالية لشؤون رابطة الدول المستقلة، والتعاون الإنساني الدولي للاتحاد الروسي”Rossotrudnichestvo” لمجموعة من الصحافيين والإعلاميين من الشرق الأوسط، لإظهار التقدم الذي حققته موسكو في الأمن الغذائي والتعاون مع الدول الصديقة في هذا المجال.
رحلة مصراوي تتبع آليات حماية الأمن الغذائي في روسيا
الرحلة التي خاضها مصراوي بداية من العاصمة موسكو مرورا بسان بطرسبرغ وانتهت في مدينة “روستوف أون دون” الواقعة قرب الحدود الأوكرانية، سلطت الضوء على استرتيجية روسيا في التغلب على العقوبات الاقتصادية وتحقيق الاكتفاء الذاتي خاصة في مجال الأمن الغذائي.
البداية من موسكو.. تقنيات متطورة لجينات النباتات والزراعة الحديثة
بداية الجولة كانت في موسكو، بالمشاركة في مائدة مستديرة أقيمت بمقر غرفة التجارة والصناعة في الاتحاد الروسي، حضرها عدد من الخبراء الروس المعنيين بمجال الأمن الغذائي؛ وأدارت الجلسة “أناستازيا سيشيفا” رئيس قسم المساعدة الإنمائية الدولية بالوكالة الفيدرالية “Rossotrudnichestvo”.
أتاحت الجلسة الفرصة لمناقشة عدة مواضيع مع الخبراء، والتي كانت ذات صلة بتحديات الأمن الغذائي وشملت المناقشة جودة المنتجات المحلية، الجهود المبذولة لإنتاج أنواع الغذاء الأساسية، ودور الدولة في توفير الحبوب وفرص التصدير، وكذلك معالجة قضايا الأمن الغذائي العالمي، فيما كان التعاون مع مختلف الدول محور التركيز بالمناقشات خاصة في ضمان سلامة المنتجات الغذائية والزراعية قبل التصدير.
وتحدث “فاسيلي فلاديميروفيتش لافروفسكي”، مستشار رئيس هيئة “Rosselkhoznadzor” الروسية، وهي هيئة اتحادية تمارس الإشراف على الطب البيطري والإنتاج الزراعي والمنتجات الثانوية في الاتحاد الروسي تابعة لوزارة الزراعة الروسية، مشيرا إلى التعاون مع دول عديدة لضمان سلامة الغذاء والمنتجات الزراعية قبل التصدير، كما تحدث بالنيابة عن هيئة الجمارك الروسية عن مزايا وخبرات الجمارك.
وتحدث أناتولي تيخونوف، مدير مركز الأعمال التجارية الزراعية والأمن الغذائي في هيئة “RANEPA”،
عن جودة المنتجات المحلية، والجهد المبذول لإنتاج الأنواع الأساسية من الغذاء، وتوفير الدولة للحبوب وفرص التصدير، كما تحدث عن المسار الجديد للأمن الغذائي والإنجازات بعد اعتماده، ودور روسيا في مستقبل حل مشاكل الغذاء العالمية.
وتطرقت المناقشات إلى أهمية الأبحاث الجينية الحديثة في الزراعة، ومساهمة علوم الجينوم في إجراء أبحاث دقيقة تفيد الطب والزراعة والتكنولوجيا الحيوية الصناعية وإمكانات التكنولوجيا الحيوية لتطوير الاقتصاد الإقليمي، وذلك في مداخلة تحدث فيها “ديمتري كريفوشيف” أستاذ مشارك في قسم الأحياء والكيمياء في جامعة فولوغدا الحكومية، خبير في مجال الهندسة الوراثية.
كما تحدثت الدكتورة “جورافلوفا ايكاتيرينا” الخبيرة بالعلوم الزراعية، الأستاذة بالأكاديمية الروسية للعلوم، عن الاتجاهات في علم الأحياء الزراعي، ومجالات البحث الحرجة، الزراعة الحديثة والموارد الوراثية والزراعة الهوائية والزراعة المائية، والضوئيات الحيوية الزراعية.
وتضمنت المناقشات تطوير تكنولوجيا زراعة اللحوم في المختبر، وأنظمة التتبع المتقدمة للأنماط الشاذة في المزارع، والحلول المبتكرة مثل بدائل السكر والبروتينات المؤتلفة.
وتحدثت ناتاليا مورينا، نائب رئيس جامعة “ROSBIOTECH” للتطوير التكنولوجي والتسويق، عن فرص التعاون والتكامل بين البلدان في مختلف المجالات السياسة العامة والاقتصاد العالمي والتعليم والعلوم، لضمان الأمن الغذائي، وأكدت أن الجامعة مستعدة لمشاركة التطورات الفريدة وإطلاق الإنتاج المشترك، حيث تتعاون الجامعة بالفعل بنشاط مع العديد من البلدان في مجالات التكنولوجيا الحيوية، ومعالجة الحبوب، وإنتاج معدات التبريد، ومعالجة الخضروات، والإنتاج الغذائي.
سان بطرسبرغ.. أقدم بنك للبذور ومركز أبحاث الأمن الغذائي
كان اليوم الثاني من الزيارة في مدينة سان بطرسبرغ الشهيرة، مستقلين القطار السريع في رحلة استغرقت 3 ساعات سمحت لنا بمشاهدة مناظر طبيعية جميلة على طول الطريق، وعند الوصول أسرتنا أجواء المدينة النابضة بالحياة، وسط نمط مميز للمباني التاريخية التي تشبه والكنائس ذات الطراز المعماري المميز.
جاءت زيارة معهد أبحاث عموم روسيا لصناعة النباتات “فافيلوف” بسان بطرسبرغ من أبرز الأحداث في الزيارة، ذلك المعهد الذي يرجع تاريخه إلى 130 عاما مضت وأعيد تأسيسه في عام 1921، يحمل إرثًا ملهمًا ولكنه مأساوي حيث جمع المعهد أكبر مجموعة بذور في العالم.
رغم شهرة المعهد على المستوى العلمي، إلا أنه اكتسب شهرة مأساوية بعد صموده خلال حصار “لينينغراد” التاريخي الذي استمر 28 شهرًا في الحرب العالمية الثانية، بعد أن فقد 9 من علماء النبات بالمعهد حياتهم بعد أن فضلوا الجوع على استهلاك البذور التي جمعوها وحماية تلك المجموعة القيمة.
رافقنا نائب مدير المعهد “أليكسي زافارزين”، لنستكشف أساليب الحفظ الكلاسيكية والحديثة في المعهد، وأكد زافارزين أن مهمتهم تتجاوز البحث العلمي؛ إنها تتعلق بتغيير تصورات الجمهور حول دور النباتات في دعم الإنسانية، خاصة في الأمن الغذائي.
وأكد نائب مدير المعهد، أليكسي زافارزين، على أهمية الأبحاث الجينية في تأمين الغذاء وضمان حياة الإنسان، مشيراً إلى أن كل قطعة خبز على موائد الطعام في العالم ترتبط برحلات العالم الروسي نيكولاي فافيلوف إلى الشرق الأوسط قبل 100 عام.
وفي مبنى المعهد زرنا المكتب التاريخي لعالم النباتات الشهير ” نيكولاي فافيلوف”، كما رأينا غرف البذور التي يتم التحكم في مناخها والتقينا بعلماء شباب يعملون على اختيار النباتات باستخدام التكنولوجيا الحيوية الجزيئية الحديثة.
الطريق إلى “روستوف”.. صناعات ثقيلة تدعم الأمن الغذائي قرب حدود الحرب
كان اليوم التالي هو الأصعب في الرحلة، حيث كان علينا السفر من سانت بطرسبرغ إلى روستوف أون دون وهي مسافة بعيدة تصل إلى 1788 كيلو متر، ولأسباب متعلقة بتأمين المجال الجوي قرب منطقة النزاع انقسمت الرحلة لمرحلتين الأولى طيران لمدة 3 ساعات من سانت بطرسبرغ إلى مدينة فولغوغراد، تلتها رحلة بالحافلة من فولغوغراد إلى روستوف استغرقت نحو 10 برًا.
وجهتنا الرئيسية كانت مصنع “Rostselmash” في مدينة روستوف-أون-دون، الذي يمتد على مساحة تزيد عن 150 ألف متر مربع، ويعمل في مجال الهندسة الميكانيكية منذ أكثر من 95 عاما، وتكمن أهميته في أنه يعد واحداً من أكبر خمسة مصانع في العالم لإنتاج المعدات الزراعي، ويبلغ عدد عمال وموظفون هذا المصنع أكثر من 15 ألف فرد، كما يصدر منتجاته لأكثر من 20 دولة حول العالم، ولديه أكثر من 150 موديل يصنعها ويبيعها.
مسؤولون روسيون: نتائج الأمن الغذائي تصل إلى الدول الصديقة
ويرى المسؤولون الروسيون أن الأمن الغذائي هو مفتاح المستقبل، وذلك يتطلب التعاون الدولي لإيجاد الحلول، في حين تسعى موسكو جاهدة لبناء عالم حيث الآمن الغذائي مضمون ومستدام مستعينة بقدراتها وخبرات راكمتها على طول عشرات السنوات، ولذلك بدأت التفكير في الحلول والتخلص من المشاكل وزيادة الإنتاج الزراعي وتطوير الزراعة حتى وصلت الى الاكتفاء الذاتي وضمنت آمنها الغذائي، مدعومة برصيد تاريخي في البحث العلمي جعلها من الدول الأولى في العالم التي أسست بنكا غذائيا.
وبالنسبة للمسؤولين الروس لم تستفد وحدها روسيا من أمنها الغذائي بل ترسل كميات كبيرة إلى بعض الدول دون مقابل على شكل مساعدات كما تبيع الفائض من القمح والحبوب إلى الدول الصديقة بأسعار منخفضة وتساعد في هذه الدول في مواجهة مشاكلها الغذائية، وتسعى روسيا لتحويل العقوبات إلى فرصة لتعزيز الإنتاج الوطني وتقليل الاعتماد على المواد الأولية المستوردة، مما يعزز من أمنها الغذائي ويضمن استمرارية التصدير إلى الدول الصديقة.