جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يمكن بكثير من تمعُّن أن نصف ومن خلال منظور اتصالي وإعلامي أجيال الناشئة وصغار الشباب بأنهم جيل ولد على أراضي الويب وسيظل ينمو معها تطعمه تغذيتها الاتصالية ويفضل ذلك، فقد كانت أول ما عرفته عيونهم من إضاءات هو نور الحياة وإضاءات شاشات الموبايل تحمل تطبيقات الويب المختلفة في يد الأم والأقارب، فألفوا الضوء وميزوا ألوان التطبيقات وأصبحت أقرب منهم وإليهم بطابع توظيفها الفردي والجماعي في آن معا، هى أجيال تحمل مؤشرات كثافة تفاعلها وتنوعات بروفايلاتها واستخدامها لمنصات التواصل والمنصات الرقمية عامة دلالات هامة عن مستقبل الميديا وحدود العوامل ذات الأهمية المؤثرة التى تشكل مدركاتهم وتصوراتهم لكل من حولهم.
وحيث بدأوا الحياة من لحظة أن تولى الأهل إعلان مولدهم ونشر صورهم ومراحل نموهم علي فضاءات الإنترنت وعبر هواتفه، ثم مضوا يكبرون وتتشكل معهم ثقافة اللايك والشير وهكذا يشبون.
ربما يجدر التأكيد أنه لم يصل قطعا خيال واسع أو طامح من مخترعي شبكات التواصل إلى ما جرى وعرفناه بعد ذلك، وذلك من حيث مستوى ومعدلات النمو والتطور فى وظيفة وانتشار مواقع ومنصات بدت خيالا وحلما حتى أسموها تقليلا “افتراضية” فاستيقظوا لتكون بعض الحياة أو أكثرها وتنمو باضطراد، ثم لتتجسد فى كيان ضخم مهول صار مجال النشاط الإنسانى الأكبر فى الحياة المعاصرة تفاعلا وبثا واستخداما وخدمات، وحيث يتعايش فى ساحته أكثر قاطنى جغرافيا الكون، رجالا ونساء، شبابا وأطفالا، كهولا وشيوخا، يتوزعون عبر منصاته ولكل تفضيلاته ويتجولون عبر ساحاته وأرضه التى كان يحلو للبعض وصفها بالساحة الإفتراضية ذات يوم ليس ببعيد، فصارت أراضين كثيرة تحمل أوجه حياة البشر وتصنع توثيقا مكتوبا ومرئيا، شخصيا وجماعيا للثقافة والحياة الإنسانية المعاصرة.
ويمكن متابعة تحولات ونمو الدور الهائل محليا لوسائط التواصل، من أنه وحتى فيما يخص النمط البسيط للحكايات الإنسانية على صفحاته وفضاءات مواقعه، فقد نمت أشكالها ومضمونها فى الثقافة المصرية على الويب، لتتضمن تنويهات يضعها الأفراد عن وقائع حياتية شتى تشمل زواجا وتعازى ومباركات بالأعياد، حتى إنه ليمكننا القول بأن من لم يُنشر عن ميلاده أو زواجه أو وفاته أو سفره أو عودته على صفحات الفيس فربما لم يحدث له شيء بعد، ثم لتمضى لتكون أكبر مجال فى نطاق تسويق الخدمات والسلع، ولتشكل كل يوم بعدا اقتصاديا مهما، ثم أيضا لتصنع تأثيراتها فى مجال التصور العام.
وهكذا تتشكل وسائط التوصل الاجتماعي لتكون بمثابة مجال واقعى لدراسة الثقافة الإنسانية والتعبيرات المتنوعة السياقات للمجتمعات بما لم يتوافر فى حقبة تاريخية من حيث غزارة المحتوى وتنوعها وامتداد مجالات اهتمامها، وما يميزها عن غيرها هو تلقائية ويسر تفاعل أفراد وجمهور مستخدميها مع الأحداث والقضايا والأزمات والموضوعات، وما يرتبط بذلك من تنوع التعبير وشموله لمختلف التوجهات والأفكار، تمضى منصات التواصل حزمة تحمل تعبيرا ضخما عن وقائع واهتمامات الأشخاص والدول والثقافات لم تسبقه إليه آلية أخرى أو وسائط فى تاريخ المجتمعات، وهنا يبرز السؤال عن طبيعة التواجد ونوع الحضور لكل مجتمع فى ساحته، وهو ليس سؤالا عابرا، بل أن إجابته تعمل فى مساحة أن غياب المجتمعات عن الحضور المؤثر عبر تلك الوسائط هو بمثابة نزع من رصيدها وتقليل من حضورها الكوني وربما من قوة تأثيرها إقليميا ودوليا باعتبار أن وسائل الإعلام والتواصل هى معا بعض من أهم مصادر القوة الثقافية بل والسياسية للمجتمعات والدول.
يزيد من أهمية التأكيد على دخول مقصود فى مجال تلك الصناعة الإستراتيجية هو التحول فى مهام شبكات التواصل، حتى لتوشك أن تكون الناقل الخبرى الأول والحصري لجمهور ينمو فى العمر ويشكل مع الوقت أغلبية السكان، فضلا عن كونها أيضا المصدر الأكبر لنثر الشائعات وتوظيفها فى مجال “الحروب الناعمة” بين الدول وبما لا يتوافر لغيرها من قدرات وطاقات وسرعة، فضلا عن أن مختلف وسائل الإعلام التقيدية ذاتها اعترافا بقوة المنصات انتشارا وتسويقا وموارد اعلانية صارت تصنع تواجدا وحضورا لها على تلك الوسائط، بحيث يكفى للمستخدم أن يضغط زر اللايك على صفحات تلك القنوات والصحف والمواقع لتتدفق أخبارها عبر مختلف تلك المنصات إليه وفى يسر، وهكذا أيضا تدخلت لتصنع لكل شخص قائمة تفضيلات من تلك المصادر التي يفضلها والتي صارت مع الوقت تحتكر معارفه وتغلق عليه مسارات التنوع، فتتشكل المدركات والتوقعات القريبة أو البعيدة عن الواقع أو حتى تلك التى تتجاوزه، ولتكون أيضا وبالتوازى أكبر آلية تاريخية فى ضخ الشائعات وتكبيرها عبر مراياها محدبها ومقعرها.
الرهان الحقيقى للمجتمعات ألا تسكن إلى دور المستهلك التقنى والعارض الثقافى، رهانها هو بناء وتفعيل وتسويق مواقع تواصل اجتماعى يتم الضخ فيها واستثمارها عبر إستراتيجية مستقبلية تقنية ومعرفية، تفهم سياقات العصر وتعيش تجاربه الأهم انخراطا وبناء ودورا.